أثار توقيع طرفي النزاع في جنوب السودان على اتفاق نهائي للسلام خلال الأسابيع القليلة الماضية، وما أعقبه من توقيع الأطراف على اتفاق أمنى تساؤلات كثيرة، هل ستنتهي هذه الأزمة وتعود جنوب السودان للاستقرار؟، هل سيقضي هذا الاتفاق على مشاكل كثيرة أخرى ليست سياسية؟، إلا أن الإجابة كانت أن المشهد الجنوبي لا يزال ملبدا بالغيوم في ضوء استمرار تفاقم الأوضاع المتردية والشكوك حول إمكانية التوصل إلى سلام حقيقي داخل البلاد. وقع ممثلو الحكومة والمعارضة في جنوب السودان مؤخرا بأديس أبابا على وثيقة تلزمهما بتنفيذ الشق الأمني في اتفاق السلام الموقع خلال أغسطس الماضي، بحيث يتم استئناف المحادثات على الفور حول نزع السلاح في العاصمة جوبا، بعد انسحاب المفاوضين المتمردين منها منذ سبتمبر الماضي، فضلا عن تحديد مواقع قوات الطرفين وإنشاء جيش موحد. ويسمح تطبيق اتفاق الترتيبات الأمنية للمتمردين بإرسال فريق إلى جوبا بحلول منتصف نوفمبر الجاري، للتحضير لعودة رياك مشار النائب السابق للرئيس والذي أصبح زعيما للمتمردين، إلى عاصمة جنوب السودان حيث يفترض أن يتقاسم السلطة مع الرئيس سلفا كير في حكومة انتقالية، إلا أن كل هذه الترتيبات والتفاؤل الذي أبداه الكثيرون إزاء هذا الاتفاق، وتوقعاتهم بقرب حدوث انفراجة، لا يمنع بعض المراقبين من وجود حالة التشاؤم وخيبة الأمل نتيجة عدة عوامل، أولها أنه على الرغم من توقيع اتفاق السلام بين الطرفين في أغسطس الماضي غير أن الطرفين لم يكفا طوال هذه المدة عن تبادل الاتهامات بارتكاب انتهاكات للاتفاق في ظل تواصل المعارك في عدد كبير من المناطق بالبلاد، حيث أظهرت تقارير دولية أن ما يقرب من 1000 مدني قد قتلوا من جراء العنف خلال 5 أشهر من الصراع. تتعدد الاتفاقيات السابقة التي لم يلتزم بها أطراف النزاع، حيث لم يعد هذا الاتفاق الأول من نوعه بل سبقه اتفاقات سلام وقعها الجانبان مما أفقد الشعب الجنوبي الثقة في إمكانية إنهاء هذا الصراع والوصول إلى السلام الحقيقي الذي يتطلع إليه منذ الانفصال عام 2011، وعزز فكرة تجدد النزاع مرة أخرى، إضافة إلى ذلك فإن الأوضاع في جنوب السودان تزداد سوءا يوما تلو الآخر، فعلى الصعيد الإنساني يمر جنوب السودان حاليا بأسوأ مرحلة خلال 22 شهرا من النزاع، فقد تم تشريد مليوني مواطن خارج منازلهم وهناك أكثر من 30 ألف شخص مهدد بالموت جوعا في المناطق التي دمرتها الحرب الأهلية في الجنوب، بينما هناك عشرات الآلاف الآخرين على وشك أن تصيبهم مجاعة وبحاجة إلى مساعدات طارئة. وعلى الصعيد الاقتصادي فقد شهدت البلاد ارتفاعا هائلا في معدلات التضخم وانخفض الإنتاج النفطي بنسبة 40%، إذ كانت تنتج البلاد قبل المعارك 240 ألف برميل يومياً، بينما يبلغ الإنتاج حاليا 164 ألف برميل يومياً فيما يعتقد محللون أنه قد يصل إلى أقل من 130 ألف، على الرغم من أنه لا يزال المصدر الرئيس للدخل الخارجي سواء عبر عائدات مباشرة أو استدانات تعتمد على إنتاج مستقبلي. وفي ضوء الوضع السابق يتوقع المراقبون أن يكون مصير اتفاق السلام الحالي مثل سابقيه من الاتفاقات بمعنى أنه لن يقود البلاد إلى السلام الحقيقي الذي يتطلع إليه المواطنون، ويرى هؤلاء المراقبون أن الأزمة الحقيقية تكمن في أن الصراع الدائر بالدولة الوليدة هو صراع على السلطة تغيب عنه قضايا التنمية ومكافحة الفساد وقضايا المواطن الجنوبي الحقيقية لرفع مستويات المعيشة، كما يرى هؤلاء أن القيادات الجنوبية سواء في الحكومة أو المعارضة هي المسئول الأول عن الأزمة الحالية وأن الخطأ الأكبر الذي وقع عند استقلال الدولة أنها بنيت على اعتبارات قبلية وليست وطنية وبالتالي أصبح الولاء الأول للقبيلة، وهو ما غذى الشرخ السياسي الذي حدث في صفوف القيادات، فعندما قام سيلفا كير بإقالة رياك مشار في ديسمبر 2013 – إثر اتهامه بالقيام بمحاولة انقلابية ضده – اعتبر كثيرون أن هذا الأمر بمثابة استهداف لقبيلة النوير التي ينتمي إليها مشار من قبل قبيلة الدينكا التي ينتمي إليها سيلفا كير وتسيطر على أهم المناصب في الدولة. وتتصاعد الانتقادات ضد رئيس دولة جنوب السودان سلفا كير ميارديت عقب قرار لحكومته يسمح للبرلمان بإجراء تعديلات في الدستور الانتقالي، من قبل المعارضة حيث وصفها البعض بأنها جاءت من أجل إضفاء شرعية على قرارات رئاسية بتقسيم ولايات البلاد إلى 28 ولاية إثنية، وكان مجلس وزراء حكومة جنوب السودان قد صوّت لصالح قرار يقضي بإجراء تعديلات على بعض بنود الدستور، بحيث يعطي للرئيس الحق في إنشاء ولايات جديدة، في وقت يمنح الدستور هذا الحق لمجلس الولايات الشبيه بمجالس الشيوخ في بعض البلدان، ويرى تحالف المعارضة -المشكلة من 18 حزبا- أن هذه الإجراءات تجعل الدستور معرضاً للتغيير المستمر من أجل الرئيس، كما تقدم بطعون قانونية لدى المحكمة الدستورية من أجل إيقاف استمرار ما أسماه "مسلسل تقويض الدستور لصالح الرجل الواحد".