رغم توقيع طرفي الصراع في جنوب السودان علي اتفاق نهائي للسلام، إلا أن المشهد الجنوبي لا يزال ملبدا بالغيوم في ضوء استمرار تفاقم الأوضاع المتردية والتشكك حول إمكانية التوصل إلي سلام حقيقي داخل البلاد. وقد وقع ممثلو كل من الحكومة والمعارضة في جنوب السودان يوم الإثنين الماضي في أديس أبابا علي وثيقة تلزمهما بتنفيذ الشق الأمني في اتفاق السلام الموقع في أغسطس الماضي، بحيث يتم استئناف المحادثات علي الفور حول نزع السلاح في العاصمة جوبا، بعد انسحاب المفاوضين المتمردين منها منذ سبتمبر الماضي، فضلا عن تحديد مواقع قوات الطرفين وإنشاء جيش موحد. ومن المقرر أن يسمح تطبيق اتفاق الترتيبات الأمنية للمتمردين بإرسال فريق إلي جوبا بحلول منتصف نوفمبر المقبل، للتحضير لعودة رياك مشار النائب السابق للرئيس والذي أصبح زعيم المتمردين، إلي عاصمة جنوب السودان حيث يفترض أن يتقاسم السلطة مع الرئيس سلفا كير في حكومة انتقالية. ورغم التفاؤل الذي أبداه الكثيرون، خاصة علي صعيد المسئولين في حكومة الجنوب، إزاء هذا الاتفاق وتوقعاتهم بقرب حدوث انفراجة في الأزمة غير أن الأجواء السائدة في البلاد تخيم عليها حالة من التشاؤم وخيبة الأمل، ويرجع المراقبون هذا الأمر إلي العديد من العوامل أولها أنه علي الرغم من توقيع اتفاق السلام بين الطرفين في أغسطس الماضي غير أن الطرفين لم يكفا طوال هذه المدة عن تبادل الاتهامات بارتكاب انتهاكات للاتفاق في ظل تواصل المعارك في عدد كبير من المناطق في البلاد واستمرار أعمال العنف ضد المدنيين بالقتل والاغتصاب والاختطاف، حيث أظهرت تقارير دولية أن ما يقرب من 1000 مدني قد قتلوا من جراء العنف في الفترة ما بين أبريل وسبتمبر من العام الجاري. كما أن هذا الاتفاق ليس الأول من نوعه بل سبقه عدد من اتفاقات السلام التي وقعها الجانبان ولم يتم الالتزام بها أو احترام بنودها مما أفقد الشعب الجنوبي الثقة في إمكانية إنهاء هذا الصراع والوصول إلي السلام الحقيقي الذي يتطلع إليه منذ حصوله علي الاستقلال عام 2011. إضافة إلي ذلك فإن الأوضاع في جنوب السودان تزداد سوءا يوما تلو الآخر. فعلي الصعيد الإنساني يمر جنوب السودان حاليا بأسوأ مرحلة خلال 22 شهرا من النزاع، فقد تم تشريد مليوني مواطن خارج منازلهم وهناك أكثر من 30 ألف شخص مهدد بالموت جوعا في المناطق التي دمرتها الحرب الأهلية في الجنوب، بينما هناك عشرات الآلاف الآخرين علي وشك أن تصيبهم مجاعة وبحاجة إلي مساعدات طارئة. وتؤكد تقارير منظمات الإغاثة أن الأسر النازحة تعيش علي وجبة واحدة في اليوم، وأحيانا تعتمد علي أوراق الأشجار والنباتات المائية، كما يوضح برنامج الغذاء العالمي التابع لمنظمة الأممالمتحدة، أن سكاناً في بعض المناطق بدولة الجنوب قد وصلوا إلي المرحلة الخامسة، أي انعدام الأمن الغذائي بشكل كارثي، وذلك للمرة الأولي منذ انفصال البلاد عن السودان عام 2011. أما علي الصعيد الاقتصادي فقد شهدت البلاد ارتفاعا هائلا في معدلات التضخم وانخفض الإنتاج النفطي بنسبة 40%، إذ كانت تنتج البلاد قبل المعارك 240 ألف برميل يومياً، بينما يبلغ الإنتاج حاليا 164 ألف برميل يومياً فيما يعتقد محللون أنه قد يصل إلي أقل من 130 ألفاً، علي الرغم من أنه لا يزال المصدر الرئيس للدخل الخارجي سواء عبر عائدات مباشرة أو استدانات تعتمد علي إنتاج مستقبلي. ويعاني السكان حتي في الولايات غير المتأثرة مباشرة بالنزاع المسلح من عدم انتظام هطول الأمطار، ونضوب الموارد، وتصاعد تكاليف الوقود، كما شهدت أسعار السلع الاستهلاكية ارتفاعا جنونيا وصل في بعضها إلي 300% بسبب توالي ارتفاعات سعر صرف الدولار مقابل العملة المحلية الجنيه في السوق الموازية، وانعدامه في بعض الأحيان. وفي ضوء الوضع السابق يتوقع المراقبون أن يكون مصير اتفاق السلام الحالي مثل سابقيه من الاتفاقات بمعني أنه لن يقود البلاد إلي السلام الحقيقي الذي يتطلع إليه المواطنون، ويري هؤلاء المراقبون أن الأزمة الحقيقية تكمن في أن الصراع الدائر في الدولة الوليدة هو صراع علي السلطة تغيب عنه قضايا التنمية ومكافحة الفساد وقضايا المواطن الجنوبي الحقيقية لرفع مستويات المعيشة. كما يري هؤلاء أن القيادات الجنوبية سواء في الحكومة أو المعارضة هي المسئول الأول عن الأزمة الحالية وأن الخطأ الأكبر الذي وقع عند استقلال الدولة أنها بنيت علي اعتبارات قبلية وليست وطنية وبالتالي أصبح الولاء الأول للقبيلة، وهو ما غذي الشرخ السياسي الذي حدث في صفوف القيادات، فعندما قام سيلفا كير بإقالة رياك مشار في ديسمبر 2013 - إثر اتهامه بالقيام بمحاولة انقلابية ضده - اعتبر كثيرون أن هذا الأمر بمثابة استهداف لقبيلة النوير التي ينتمي إليها مشار من قبل قبيلة الدينكا التي ينتمي إليها سيلفا كير وتسيطر علي أهم المناصب في الدولة. وعلي الرغم من الدعم الكبير الذي قدمه المجتمع الدولي لدولة الجنوب الوليدة منذ استقلالها عن السودان، غير أن هذا الدعم لم يسهم في بناء دولة قانون ولم يساعد في تحويل الجيش الذي كان متمردا إلي جيش وطني، وهو ما أدي بدوره إلي تكريس القبلية داخل مختلف أجهزة الدولة وأصبح المسئولين لا يعينون إلا أفراد من قبائلهم ولا يعملون إلا لخدمة مصالحهم. وبناء علي ما سبق يعتقد المراقبون أن العناصر الأساسية المسئولة عن تحقيق السلام في جنوب السودان لا تزال غائبة، فأي اتفاق سلام غير كفيل بضمان حدوث سلام حقيقي في دولة الجنوب ولكن الضمانة الحقيقية والأهم هي القدرة علي تجاوز العنصر القبلي داخل البلاد ووجود قيادات ونخب ومؤسسات تغلب مصلحة الوطن علي مصالحها الشخصية والقبلية.