يصفه الخطيب البغدادي بقوله: "كان أحد أئمة العلماء، يُحكَم بقوله، ويُرجع إلى رأيه لمعرفته وفضله، جمع من العلوم ما لم يشاركه فيه أحد من أهل عصره، كان حافظًا لكتاب الله، عارفًا بالقراءات كلها، بصيرًا بالمعاني، فقيهًا في أحكام القرآن، عالمًا بالسنن وطرقها: صحيحها وسقيمها، وناسخها ومنسوخها، عارفًا بأقوال الصحابة والتابعين ومن بعدهم…، عارفًا بأيام الناس وأخبارهم". وفي سير أعلام النبلاء يحكم عليه الذهبي بأنه: "كان ثقة حافظًا صادقًا، رأسًا في التفسير، إمامًا في الفقه والإجماع والاختلاف، عَلاَّمةً في التاريخ وأيام الناس، عارفًا بالقراءات واللغة، وغير ذلك". أبو جعفر محمد بن جرير الطبري (224 – 310ه) صاحب أشهر تفسير مطبوع، وأكثر المفسرين تأثيرا فيمن جاء بعده، إذ لم يكن بوسع أحد أن يتجاوز ما يقرره الطبري، وما يسوقه من أخبار، وما يميل إليه من آراء.. تأثير امتد لنحو ألف عام، وطال عشرات من الكتب التي صنفت في هذا الميدان الواسع. قدم الطبري لتفسيره بحشد عدد من المسائل المنهجية الضرورية للتعامل مع التفسير وعلوم القرآن مثل: لغة القرآن، الأحرف السبعة، طرق التفسير، تأويل القرآن بالرأي، ومن تقبل روايتهم في التفسير ومن لا تقبل، واختار لمقدمته المنهجية هذه عنوانا هو: "القول في الوجوه التي من قِبَلِها يُوصلُ إلى معرفةِ تأويلِ القرآنِ". ولا شك أن تفسير الطبري يعتمد على "المأثور" ويستند إليه، لكنه إلى جانب الرواية يتمتع بالدراية، ويهتم بالقراءات، ويعرض لوجوه اللغة، ويحتكم إلى الشعر، وينقل عن المدارس اللغوية، ويسوق الإسرائيليات خلال تعامله مع النص، لكنه يجعل الحكم لما صح سنده، فهو أثري، لا يقبل التفسير بالرأي. لكن محمد الفاضل بن عاشور يرى أن تفسير الطبري يعد تفسيرا علميا، يرجح فيه عمل النظر ويتوسع إلى درجة يصعب معها وصفه بأنه تفسير أثري النهج، فهو "في كثير من صور انتقاده للأحاديث المسندة قوي الاعتماد على الفقه وملاءمة الأمصار من الأقوال، فكثير ما يرد حديثا في تأويل آية بأنه خلاف ما تقرر عند الفقهاء من الحكم… وبهذه الطريقة أصبح تفسير الطبري يغلب عليه جانب الأنظار على جانب الآثار…". ويرى ابن عاشور أن "الذين يعتبرون "الطبري" تفسيرا أثريا، أو من صنف التفسير بالمأثور إنما يقتصرون على النظر إلى ظاهره بما فيه من كثرة الحديث والإسناد، ولا يتدبرون في طريقته وغايته التي يصرح بها من إيراد تلك الأسانيد المصنفة المرتبة الممحصة". وقد تعجب ابن عاشور من ابن خلدون الذي اعتبر الطبري مجرد مدون للآثار المنقولة مثله مثل الواقدي والثعالبي، ورأى مفتي الديار التونسية أن السبب في ذلك "قد يرجع إلى أن تفسير الطبري كان مفقودا أو في حكم المفقود حتى ظهر للناس مطبوعا محققا من عدة عقود، بعد أن تعاون على إخراجه العالمان المحققان الأخوان محمود وأحمد شاكر، فجاء في حسن عرضه، ودقة ضبطه، وترتيب مفاصله، وتحقيق معانيه، وتخريج أحاديثه، واستيعاب فهارسه آية للسائلين". وبالرغم من اشتراك الأخوين شاكر في تحقيق كتاب تفسير الطبري، إلا أنه من الواضح أن معظم الجهد كان لمحمود لا لأحمد، حيث كتب الأول في مقدمة الكتاب ما يشير إلى ذلك قائلا: "كنت أحبُّ أن يكون العمل في نشر هذا الكتاب مشاركة بيني وبين أخي في كلّ صغيرةٍ وكبيرة، ولكن حالت دون ذلك كثرة عمله. وليتَه فَعَل، حتى أستفيد من علمهِ وهدايته، وأتجنّبَ ما أخاف من الخطإ والزلل". والحقيقة أن جهد أحمد شاكر اقتصر على النظر في أسانيد أبي جعفر الطبري وتخريجها، وهو عمل مهم بلا ريب، لكن محمود تولى مهمة "تصحيح نص الكتاب، وضبطه، ومقابلته على ما بين أيدينا من مخطوطاته ومطبوعاته، ومراجعته على كتب التفسير التي نقلت عنه، وعلقت عليه"، ويضيف أبو فهر: "بينت ما استغلق من عبارته، وشرحت شواهده من الشعر، وبذلت جهدي في ترقيمه وتفصيله…". ومن اللافت أن محمود شاكر أشار إلى موقف الطبري من المرويات التي حشدها في تفسيره، مؤكدا أنه لم يجعلها حكما على كتاب الله، ولا مرجعا لفهم آيات القران، وقد نص شاكر على ذلك في مقدمة تحقيقه فقال بعبارة قاطعة: "أحببتُ أن أكشف عن طريقة الطبري في الاستدلال بهذه الرواياتِ روايةً روايةً، وأبيّن كيف أخطأ الناسُ في فهم مقصده، وأنّه لم يَجْعل هذه الروايات قطُّ مهيمنةً على كتاب الله الذي لاَ يأتيه الباطل من يديه ولا من خلفه، وأحببتُ أن أبيّن عند كُلِّ روايةٍ مقالة الطبريّ في إِسنادِها، وأنه إسنادٌ لاَ تقوم به حُجَّةٌ في دين الله، ولا في تفسير كتابه".