عن الصراع بين القوة الغاشمة وبراءة الشباب الذي يقدم تضحيات ضخمة مقابل ما يؤمن بأنه الحق، في إحدى أشهر التراجيديات الإغريقية، يتواصل عرض "هنا انتيجون" على خشبة مسرح الطليعة، من إخراج تامر كرم. العرض الذي فاز قبل أيام بجوائز أفضل مخرج وممثلة صاعدة، لهند عبد الحليم، وممثل دور أول، لعلاء قوقة، من المهرجان القومي للمسرح. يجمع بين النص الأصلي لسوفوكليس، ونص الكاتب الفرنسي جان أنوي، الذي حمَل الأسطورة أبعادًا سياسية في إعادة قراءته للمأساة الإغريقية، وعلى خشبة الطليعة يتخذ بعدًا آخر بإضافة "هنا"، ليربط بين المأساة الإغريقية الشهيرة وبين سؤال الدم، والحق في معارضة الحاكم، وأثر القمع في تدمير الأمم وسلبها أغلى ما لديها. قدم العرض صورة الديكتاتور الذي تعميه القوة الغاشمة عن رؤية ما يطرحه الآخر المخالف، حتى لو كان أقرب الناس إليه، يحذره من خطورة الاستهانة بسفك الدماء، ومن أن دائرة الدم حين تبدأ لا نهاية لها، في إسقاط، وفق رؤية المخرج، على تداعيات الشارع السياسي المصري، وإن لم يقترب منه، مباشرة، بمشهد أو جملة، محافظًا على العالم الخاص بالأسطورة. يقدم العرض المأساة في قالب موسيقي ملحمي، عبر أداء حي على المسرح، بينما فرقته الموسيقية وراء ستارة شفافة في مستوي مرتفع في عمق المسرح أعلى الخشبة، لتطل على الأحداث، كجزء من بناء العرض والديكور، برسومها التي تتكامل مع سينوغرافيا العرض. وأمامها، في مستوي أقل ارتفاعًا، وقف الكورال على الجانبين، كمعادلين للجوقة اليونانية القديمة، وكمعبر عن شعب المدينة. الديكور لمحمود صبري جاء ككل عناصر العمل ليلعب دورًا حيويًا في العرض، فعلى جانبي خشبة المسرح بانوهات -خلفية- بيضاء، خلفها تنويعات من ماسكات وجوه وأجساد تتحرك خلال الأحداث، كأنها أرواح الأجداد شاهدة على ما يحدث، أو صرخات مكتومة لأهل المدينة المعذبين بصمتهم وباستسلامهم لجبروت الملك. وفي قلب الخشبة سلالم دائرية بسيطة تمثل المستوى الأعلى الذي يتحرك فيه الملك، مبرزًا سلطته وتعاليه، بينما تفتح في مشاهد أخرى في الجزء الأخير من العرض، لتظهر خلفها الفجوة "القبر"، حيث تسجن أنتيجون، وينتهي العرض والملك حبيس فيها، تعبيرا عن السجن الداخلي الذي وضع نفسه فيه بقراراته الغاشمة التي افقدته ابنه. العرض يدمج بين الغناء والتمثيل والأداء الحركي، فالفريق كله يغني ألحانا متميزة للموسيقي وليد غازي، بطابع أوبرالي عكست الحالة الملحمية المأساوية للعرض وحافظ على تدفق وحيوية الصراع الدرامي. وتألقت الدراما الحركية والاستعراضية، اللتان شاركتا في كل المشاهد، من تصميم محمد عبد الصبور، كأفضل استعراضات عروضنا هذا الموسم، فلكل منها دوره الدرامي في الأحداث، مكملا التمثيل والغناء. تصميم الملابس، لمي كمال، جاء بنفس روح البساطة الآسرة والدلالة الدرامية المعبرة، وتغير بعضها عند العرض في المهرجان القومي للمسرح، فأضيف لزي الملك الأحمر الفاخر، اللون الأسود، وارتدت أسمينا، اخت أنتيجون، الأحمر، وأنتيجون فستانًا أسود بسيط التصميم، موشحا بوشاح رمادي. وأزياء الجنود والأخوين والحراس وعامة الناس في تنويعات على درجات الرمادي والأسود والبني والبيج. وفي التعديل الذي أحدثته المصممة، صارت الملابس للجنود والعامة أقل تقليدية بأزياء مموهة بالبيج والبني، وظلت الفتيات ترتدي فساتين ذات لون رمادي، وهو اللون الغالب على أهل المدينة. تدور أحداث الأسطورة في مدينة طيبة، حيث الصراع بين أنتيجون، التي ترفض قرار خالها الملك كريون، بعدم دفن جثمان أخيها. "انتيجون" امتداد لمأساة أوديب الشهيرة، فبعد أن يهيم أعمى، ثم منتحرًا، مكفرًا عن قتل أبيه وزواجه بأمه، دون علمه، فتلحق به زوجته كمدًا، يتفق ولداه الأكبر "إيتيوكليس" والأصغر "بولينيس" على تداول الحكم بينهما، لكن الأول يرفض تنفيذ الاتفاق ويتحالف مع خاله كريون لطرد أخيه من المدينة، فيستعين الثاني بحلفائه، وفي المعركة يقتل الأخوان كل منهما الأخر، فيؤول العرش إلى "كريون" الذي يأمر أن يشيع جثمان حليفه إيتوكليس بإجلال، بينما يأمر بعدم دفن بولينيس لتنهشه الوحوش المفترسة، عقوبة لخيانته، من وجهة نظره، مهددًا من يخالف أمره بالموت الرهيب. يصمت أهل المدينة على قرار الملك، لكن أنتيجون تنتصر لقانون الآلهة ولحق أخيها فتقوم بالطقوس الجنائزية والشعائر الدينية له، ولا تستجيب لمحاولة أختها أسامي ثنيها عن قرارها خوفا على حياتها. فيحكم الملك عليها بالدفن حية في قبر صخري، فيحاول ابنه وخطيبها، هيمون، أن يستعطف والده الذي أعماه الغضب وجنون القوة، لكنه يفشل أن يعيد له البصيرة، فيقتل نفسه عند قبر حبيبته وتتبعه أمه، لتطال المأساة كريون نفسه، فيما فقدت المدينة الطيبة شبابها البرئ الجرئ. اختار المخرج فريقًا شديد التميز، من أستاذ التمثيل بالمعهد العالي للفنون المسرحية، علاء قوقة، كريون، الذي قدم كل حركة وانفعال بحساب، فأبدع في تقديم الحالات المختلفة لشخصية الملك، من الحازم إلى المستبد العنيد إلى الأب المفجوع بانتحار ابنه وزوجته التي حملته ذنب دم ابنهما. وراهن المخرج على فريق أغلبه من الطلبة في عامهم الأول بمعهد الفنون المسرحية، وإحداهن طالبة أعلام، يصعب أن تصدق أن عملا بهذا القدر من الاتقان والإجادة يلعب بطولته شباب في بداية العشرين، مواهب شابة متألقة تمثيلًا وغناءً، هند عبدالحليم، محمد ناصر، رحاب خليل، وأحمد عبد الفتاح.