في 2004 قال الفيلسوف والمؤرخ والمنظر السياسي الأميركي، نعوم تشومسكي في أحد البرامج التليفزيونية تعليقاً على علاقة النفط بغزو العراق 2003 أن "لولا النفط لكانت منطقة الشرق الأوسط مثال للتعايش والسلام؛ أنه نعمة ونقمة دول هذه المنطقة، فالطاقة الرخيصة التي اكتشفت هناك منذ أوائل القرن العشرين، هي التي تحدد من وقتها وحتى الأن شكل الصراعات الدائرة، سواء بانتهاء من إعادة رسمها وتقسيمها بين الدول الاستعمارية، أو منذ بداية وضع الولاياتالمتحدة يدها عليه. هذا جعل مصادر الطاقة وسياستها من الحوامل الرئيسية التي تتغير على أثرها السياسات في المنطقة، فالبعودة لبدايات اكتشافات النفط في الخليج الفارسي والطفرة التي أحدثها اقتصادياً وكان لها مردودات سياسية منها على سبيل المثال تعزيز الاستبداد، الوجود العسكري في هذه المنطقة منذ حرب الخليج، أخيراً غزو العراق..أخشى أنه حتى بعد نضوب النفط من هذه المنطقة أن تتمحور الصراعات هناك حول مصدر أخر للطاقة، حتى ولو كان طاقة الرياح. فحظ الشرق الأوسط جيد مثل حظ الحانوتي؛ لا يكون جيداً إلا بموت الأخريين". رأي تشومسكي السابق قبل أكثر من 10 سنوات يعبر في مجمله عن أن الطاقة وتحديداً النفط والغاز هما محور السياسات في المنطقة، والعامل الرئيسي في تفاعلات دولها مع الغرب وفيما بينهم، كذلك الآثار الاجتماعية الداخلية في هذه الدول، من ارتفاع وتفاوت مستوى المعيشة وغيرها. وبخلاف دول الخليج، فأنه منذ العقد الماضي ويحتل غاز البحر المتوسط أهمية إستراتيجية تجعله محرك للسياسة في المنطقة بعد نفط دول الخليج، فاكتشافات الغاز منذ التسعينيات في المتوسط وخاصة في شرقه ألقت مفاعيلها السياسية والاقتصادية على عدد من بلدان المنطقة، على رأسها مصر وفلسطين المحتلة و ولبنان وسوريا وتركياوقبرص واليونان، خاصة وأن الاحتياطات التي أعلن عنها في السنوات القليلة الماضية قلبت أكثر من مرة سوق الطاقة المحلي والعالمي، سواء على مستوى الاستهلاك والسعر أو على مستوى البيع والشراء بين دول المنطقة، فعلى سبيل المثال كانت مصر تصدر حتى وقت قريب الغاز إلى إسرائيل، وعقب تشغيل الأخيرة لآبار الغاز الخاصة بها في شرق المتوسط على نحو اقتصادي، انعكس الأمر وأصبح الغاز المصري غير ذي حاجة لإسرائيل، بل أن مصر إزاء زيادة الطلب الداخلي على الغاز، أضحت في حاجة لاستيراد الغاز من عدة دول على رأسها إسرائيل التي استفادت من القلاقل الاقتصادية والسياسية والأمنية في مصر لتقدم نفسها كمُصدر مستقر وثابت للغاز الطبيعي. على عكس الأخيرة. ولا يجد هنا مثال لتقلب سوق الغاز في المنطقة وماله من آثار اقتصادية وسياسية على دول المنطقة أكثر من الاكتشافات الجديدة المعلن عنها حديثاً في مصر، وأهمها حقل غاز "شروق"، فعلى الرغم من توقع اكتشاف احتياطات غازية هائلة في هذه المنطقة منذ سنوات، إلا أن توقيت الاكتشاف أو تحديداً توقيت الإعلان عنه كان له أثر بالغ على مشهد سوق الطاقة في المنطقة وربما العالم، فالاحتياطات المؤكدة لهذا الاكتشاف لا تسد احتياجات مصر لسنوات طويلة قادمة فقط، ولكن تضعها في صدارة الدول المصدرة للغاز على مدار العقديين القادمين، وهو ما يعد معامل خطر قائم على صناعة التعدين الإسرائيلية التي عمادها حقول غاز شرق المتوسط، والتي بدأت الحكومة الإسرائيلية مؤخراً تقسيم وإعادة هيكلة هذا القطاع على أساس استثمارات مباشرة من رجال أعمال، وهو ما كان يعني خضوع الغاز إلى قوانين السوق داخل وخارج الكيان، لكن مع الاكتشافات المصرية الجديدة، والتي تحاط بغموض حول كيفية إدارة القاهرة لها حالياً ومستقبلاً، فأن الغاز الإسرائيلي الذي هو بتعبير نتنياهو "كنز إسرائيل الاستراتيجي"، لم يحظى فقط بمنافس قوي، ولكنه لم يعد كنزاً أيضاً، ويخضع لقوانين السوق التنافسية والتي أبسطها "من يحوذ الوفرة يتحكم في السلعة". في هذا السياق نشر معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى مقال تقدير موقف لمدير برنامج الطاقة وسياسات الخليج، المحلل والباحث سايمون هندرسون، استعرض من خلاله التقديرات العامة الأولية للاكتشفات الجديدة وأثرها مستقبلاً على كل من تل أبيب والقاهرة، وكذلك سياسات المنطقة بشكل عام. وفيما يلي نص المقال: في بيان صحفي صدر في 30 أغسطس، أعلنت شركة "إيني" الإيطالية للطاقة أنها قد اكتشفت حقل "عملاق" للغاز الطبيعي قبالة سواحل مصر. وقد تحقق الاكتشاف بعد إجراء حفر على عمق 1,450 متراً تحت قاع البحر واستمرت أعمال الحفر إلى عمق 4,131 متراً، ويمكن أن يحتوي الحقل ما يصل إلى 30 تريليون قدم مكعب من الغاز، وهو واحداً من أضخم الاكتشافات في التاريخ. ووفقاً ل "المراجعة الإحصائية للطاقة في العالم" التي تصدرها شركة البترول البريطانية "بي بي"، فإن لدى مصر بالفعل 65 تريليون قدم مكعب من الاحتياطيات المؤكدة، وبالتالي فمن شأن الحقل الجديد أن يزيد من هذا الاحتياطي بنحو 45 في المائة. وبعبارة أخرى، إنه يغطي حوالي ثمانية عشر عاماً من الاستهلاك الحالي للغاز في مصر. ومن المرجح أن يعقّد هذا الاكتشاف من الوضع الذي تمر به الزيادة الأخيرة في خطط الغاز البحرية الخاصة بإسرائيل، والتي يُعتقد أنها تشمل تعاملات محتملة مع مصر كعميل وشريك في التصدير على حد سواء. فعلى سبيل المقارنة، اكتشفت إسرائيل حتى الآن نحو 35 تريليون قدم مكعب من الغاز في مياهها، على الرغم من أن جزءً ضئيلاً فقط من هذا الاحتياطي قد صُنّف ك "مؤكد". ويحتوي أكبر حقولها، "ليڤياثان"، الذي لم يُستغل بعد، على ما يُقدر بنحو 22 تريليون قدم مكعب من الغاز. وفي المقابل، ذكرت شركة "إيني" أنها تعتزم تسريع تطوير الحقل المصري الجديد؛ وعلى الرغم من أن الأمر سيستغرق عدة سنوات قبل تدفق الغاز الأولي، إلا أن هذا الاكتشاف يمكن أن يؤدي إلى تحويل حظوظ البلاد. فمنذ الإطاحة بالرئيس المصري حسني مبارك عام 2011، ارتفع الاستهلاك المحلي للغاز في مصر، وتضاءلت صادرات البلاد من الغاز الطبيعي المسال، وانخفضت الصادرات براً إلى الأردن بشكل كبير بسبب تخريب خط الأنابيب الذي يمر عبر شبه جزيرة سيناء. وقد أدى الانخفاض في عائدات التصدير إلى تأخير المدفوعات لشركات النفط والغاز الأجنبية، مما حدا بها إلى مراجعة التزاماتها الاستثمارية. إن اكتشاف شركة "إيني" للغاز قد يُبطل هذا التدهور. وبدوره، يمكن أن يؤدي حُسن حظ مصر إلى تفاقم الاحتكاك المستمر القائم في إسرائيل حول سياسة الطاقة، التي أصبحت قضية داخلية ساخنة في الأشهر الأخيرة. ولا يزال الكثير من الناس يشعر بالقلق من أن شركة "ديليك"، وهي الشريك الإسرائيلي لشركة الغاز الأمريكية "نوبل إينرجي" فيما يتعلق بالمشاريع البحرية، سوف تستفيد كثيراً من استغلال الغاز. وقد أوقفت شركة "نوبل" العمل على تشغيل حقل "ليڤياثان" كما أجّلت توسيع حقل "تمار" الذي بدأ إنتاجه بالفعل، إلى أن يتم توضيح المناخ التنظيمي لهم في إسرائيل. بالإضافة إلى ذلك، وبينما عملت شركتي "نوبل" و"ديليك" على إعطاء الأولوية لتزويد الغاز إلى السوق المحلي الإسرائيلي، فإن خيارات التصدير قيد النظر والأكثر ربحية قد شملت التوصل إلى اتفاق محتمل لتصدير الغاز عبر خط أنابيب تحت البحر يمتد إلى محطات الغاز الطبيعي المسال في مصر – وهو اتفاق يجب أن يستمر ما بين خمسة عشر وعشرين عاماً ليكون مجدياً من الناحية التجارية. إن الاكتشاف الجديد في مصر قد يعني أنه لا يمكن تقديم سوى التزام أقصر فترة وغير مجدياً. وقد أدّى هذا الاحتمال إلى قيام وزير الطاقة الإسرائيلي يوفال شتاينتس في 30 أغسطس الماضي، بوصف الاكتشاف المصري بأنه "تذكيراً مؤلماً" بأن "إسرائيل نائمة بينما يتغير العالم". وقد تم تأجيل صيغة توفيقية سياسية إسرائيلية مفترضة لعدة أسابيع أخرى على الأقل بسبب إصرار وزير الاقتصاد الإسرائيلي أرييه درعي على أن يتم تعيين – أولاً وقبل كل شئ – مفوض جديد ل «هيئة مكافحة الاحتكار». كما أن الوضع المعقد قد يزداد سوءاً إذا قررتا شركتي "نوبل" و"ديليك" بأن الاكتشاف المصري يقوّض أساس مسودة الاتفاق الحالية القائمة بينهما. وفي الوقت نفسه، إن خطة "نوبل"/"ديليك" لاستغلال احتياطي قدره 5 تريليون قدم مكعب من حقل "أفروديت" قبالة سواحل قبرص سوف تحتاج كذلك إلى إعادة النظر فيها لأن مصر كانت العميل المنطقي لهذا الغاز أيضاً. ويمكن أن تؤدي هذه التطورات إلى إعادة إحياء خيار تصدير الغاز الإسرائيلي إلى تركيا، ذلك الخيار الذي اعتُبر حتى الآن مستحيل سياسياً في الوقت الذي لا يزال فيه الرئيس رجب طيب أردوغان الشخصية المهيمنة في سدة الحكم. ويُرجح أن هناك قضايا أخرى خاصة بأنقرة في أعقاب الاكتشاف المصري الجديد لأنه يقع بالقرب من الحدود البحرية مع قبرص، التي لا تعترف بها تركيا. وإذا تبيّن أن الحقل يمتد إلى المنطقة الاقتصادية الحصرية للجزيرة، فقد تقرر أنقرة التدخل. بالإضافة إلى ذلك، تُعتبر تركيا المنافس الإقليمي لمصر – فقد دعمت أنقرة الإخوان المسلمين بقوة في حين تناهض القاهرة بشدة هذه الجماعة. وفي الواقع، إن التحديات السياسية الدولية والمحلية التي يشكلها الغاز في شرق البحر الأبيض المتوسط تجعل تقريباً العوائق الفنية تبدو بسيطة. موضوعات متعلقة: