مع أول معول لحفر برزخ السويس عند ساحل بالوظة على البحر الأبيض المتوسط، كان أبرز تحول جيواستراتيجي شهدته الكرة الأرضية في مستهل النصف الثاني من القرن التاسع عشر يتحقق، ومع آخر معول كان تاريخ طويل من الصراع ينتظر ليصنع أرشيفا طويلا لقوة القناة الاستراتيجية. بداية، تجب الإشارة إلى أننا نحاول وضع فرضية بحثية تبدو جديدة رغم دلالتها القديمة، تلك الفرضية تقول: هل تكون القناة الجديدة مدخلا للتنمية الدفاعية بقدر ما هي بالفعل مانع استراتيجي؟ هل القناة المستحدثة وقت الصراع المحتمل تحارب معنا أم ضدنا؟. وقبل أي أجابه يجب أن نشير الإشارة المعتادة بأن تلك الفرضية البحثية ليست مدفوعة بخصومة أو انفعال، فالعلم لا يفهم كلاهما، وكل ما يمكن أن ندعيه هنا أننا نحاول إثبات دلالة دامغة تقول إن ازدواج مانع مائي علي أكثر الجبهات الاستراتيجية حساسية للصراع يجب أن يوظف كمدخل لتنمية دفاعية ووضعه ضمن صياغة استراتيجية أوسع حتي لا يكون عامل عزلة مضافة لسيناء. وهنا حقيقة لابد من التوقف عندها قليلا، فسيناء بشكل أو بآخر تنتمي للقناة لا العكس كما يبدو لنا، فهي حاجز جغرافي عند عبوره شرقا يجبرها لخضوع امتدادها أمامه حيث المضايق، فإذا عبرناها من الشرق إلى الغرب كانت امتداد طرق ومحاور سيناء على ضفاف القناة الشرقية، أي أن سيناء هي من تخضع للقناة عند عبورها شرقا، وتخضع القناة لها عند عبورها غربا، وبهذا تصبح سيناء بالقناة وبجغرافيتها العنيدة تعاقب من يتخلى عنها. ثم زاد عناد ومعضلة جغرافيا القناة بشق ممر ملاحي موازٍ شكل مانعا مضافا يجعل من هذا الازدواج إنجازا عاجزا في حال عدم الالتفات لواقع وتوابع جغرافيا القناة الجديدة. وبرغم عظمة إنجاز مشروع قناة السويس الجديدة، إلا أننا يجب أن ندرك أنه بقدر عظمة المشروع بقدر ما يجب توظيفه بالضرورة كمدخل لتنمية سيناء، فهو وعلى الرغم من عائده الاقتصادي إلا أنه يشكل في جغرافيته مانعا مائيا مزدوجا يقف بين الشرق والغرب، ولا ينبغي أن يكون هذا المشروع عامل عزلة مضافة لعزلة سيناء، بل ويجب إدراك أن هذا التحول في إدارة الجغرافيا سينعكس بطبيعة الحال على ما بعد حفر القناة، وما بعد تنمية إقليم القناة اقتصاديا، فما هو أبعد من الهدف الاقتصادي هو البعد الاستراتيجي لقوة القناة، بمعنى هل هو مدخل للتنمية أم أنه مانع استراتيجي يحول بيننا وبين العبور وقت الضرورة؟ وإذا كان كذلك فما هو الحل؟. وعند هذا التساؤل يمكننا أن نضع أساس نظرية قوة القناة لنقول إن القناة ليست خط الدفاع الأخير لنا بقدر ما هي محور الهجوم المضاد الأول، والهدف الأول للقوة الجوية للعدو من خلال (خليج العقبة وصولاً لمنحنى خليج السويس ومنه للشمال حيث القناة، أو من خلال ساحل المتوسط ومنه إلى الجنوب عبر بورسعيد) والأرجح أن القناة تحارب معنا إذا كنا نتحرك هجوما منها وليس عبرها، وتحارب ضدنا إذا انسحبنا للتحصن خلفها، فالوصول إليها من الشرق هو استراتيجية تحسم أمر سيناء بأكملها، والعبور منها للشرق يكون مصيدة طولية وخاصة عند الدفاع لا الهجوم. المقال القادم: التنمية الدفاعية لسيناء فريضة استراتيجية على مصر بعد حفر القناة الجديدة. [email protected]