أخيراً توصلت الولاياتالمتحدةوتركيا إلى اتفاق بشأن تخلي الأخيرة عن دعمها لتنظيم "الدولة الإسلامية" وانضمامها إلى التحالف الدولي، واستخدام أراضيها لشن ضربات جوية ضد التنظيم الإرهابي في سورياوالعراق، وذلك مقابل موافقة واشنطن على مطلب أنقرة بإنشاء منطقة عازلة، والسماح لها بضربات عسكرية ضد حزب العمال الكردستاني والهيئات السياسية والعسكرية التابعة له في سورياوالعراق، وأبرزها وحدات حماية الشعب التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي، الذي أنشأ ما يعرف بتجربة الإدارة الذاتية منذ اندلاع الأزمة السورية، أو ما يعرف جغرافياً بإقليم "روج آفا"، والتي خاض التنظيم من أجل الدفاع عنه معارك ضد داعش أشهرها معارك كوباني قبل عدة أشهر، وأتت اللحظة المناسبة للحكومة التركية لإعلان تخليها عن دعم داعش مرة وإلى الأبد بعد تفجير "سورج" الذي راح ضحيته العشرات، ليكون مبرراً لحكومة العدالة والتنمية أمام بيئتها المقتنعة بأن حكومة أوغلوا وقبله أردوغان داعمين "للثوار" في سوريا، حتى وإن كانوا من تنظيم داعش. يماثل التوافق الأميركي التركي، نظيره الأميركي السعودي، حيث الاتفاق على محاربة داعش و النظام السوري، ودعم ما يسمى بالمعارضة المعتدلة، وهو في الحالة التركية توافق على التعاون ضد داعش نظير إطلاق يدها في عمليات عسكرية موسعة ضد حزب العمال الكردستاني، حيث تتخوف أنقرة من نجاح الأخير في نزع اعتراف إقليمي ودولي بحقوق الأكراد في سيادتهم على أراضيهم، سواء بكيان مشابه لكردستان العراق، أو فيدرالية ضمن تمهد لتكتل كردي من شمال سورياوجنوبتركيا، وجدير بالذكر هنا أن التوافق الأميركي-التركي الحالي قد سبق أن بُحث دون أن ينفذ إبان التمهيد لغزو العراق في 2003، حيث حاولت أنقرة أن تضمن ما تعتبره "حقاً تاريخياً" في أراضي الموصل العراقية، نظير سماحها لواشنطن باستخدام أراضيها في غزو العراق، ولكن الولاياتالمتحدة عمدت وقتها إلى حق استغلال قواعد الناتو في تركيا، وهو ما حدث مجدداً منذ أيام ولكن بتوافق الطرفين. مهرب معتاد تأتي الحرب التركية ضد حزب العمال الكردستاني بعد فترة هادئة نسبياً في تاريخ الصراع بين تركيا والحزب الماركسي، وهو الصراع الذي يتجاوز 30 عام، ومر بسلسلة من الصدامات العسكرية أخرها كان في شتاء 2007، ثم أعقب ذلك محاولات للتهدئة على أساس الاعتراف بحقوق الأكراد السياسية والثقافية في تركيا، والجلوس حول مائدة التفاوض على أن يعلق الحزب أعماله العسكرية في المناطق الكردية جنوب وجنوب شرق تركيا، إلا أن ذلك المسعى واجه عراقيل وضعها الجانب التركي، أهمها التعنت في الإفراج عن زعيم ومؤسس الحزب عبدالله أوجلان، وأخيراً دعم الإرهابيين في سوريا، وذلك لضمان تفتيت الأراضي التي سيطر وأنشئوا فيها تجربة الإدارة الذاتية، وأوضح مثال على ذلك ما انتهجته أنقرة إبان معارك كوباني، حيث عملت الأخيرة على إلى فتح حدودها لتدفق مقاتلي داعش نحو الأراضي التي يسيطر عليها الأكراد في محاولة لإجهاض مسعاهم في منطقة حكم ذاتي، وخلق طوق أمني مماثل لطوق الجولان المحتل الذي دعمته إسرائيل برعاية مقاتلي جبهة النُصرة، وهو ما تسبب في تأزم مؤقت بين واشنطن وبين تركيا، بسبب جنوح الأخيرة إلى تصرفات أحادية الجانب، ولكن بعد الاتفاق على منطقة عازلة بطول الحدود مع سوريا وبعمق 40 كم فأن هذا التأزم قد انتهي. لكن الأهم من العوامل الخارجية التي عجلت بالصدام الوشيك بين نظام أردوغان حزب العمال، هي العوامل الداخلية، فبادئ ذي بدء شكلت معظم الحملات العسكرية التي شنتها تركيا ضد الحزب منذ التسعينيات وحتى 2008 مهرب من أزمات الطبقة الحاكمة في تركيا، حيث توحيد كافة جهود أجنحتها لمواجهة خطر "قومي"، وحتى بعد صعود العدالة والتنمية إلى سدة الحكم في أوائل العِقد الماضي، كانت الحملات العسكرية بمثابة حلقة من حلقات الصراع بين حكومات العدالة والتنمية والقوى القومية الآتاتوركية، وعلى رأسها الجيش، حيث توريط الأخير في معارك خاسرة يربح من وراءها أردوغان مكسب سياسي بإخفاق الجيش وبالتالي تقليص نفوذه السياسي الداخلي، وكذلك محاصرة نفوذ الأكراد في البرلمان والمحليات المتصاعد منذ 2009، بعد إخفاق تكتيك حل الأحزاب الكردية المتتالي باتهامها بعلاقات مع حزب العمال، فبعد الانتخابات الأخيرة ونجاح حزب "حرية الشعوب" الكردي في إحراز نصر سياسي انتخابي كبير يجعله رقم هام في المعادلة السياسية التركية وربما عامل معطل لمخططات أردوغان الرامية إلى تحويل النظام السياسي في تركيا من برلماني إلى رئاسي، فكان الاختيار الأنسب هو التصعيد العسكري لإحراج حزب "حرية الشعوب" في الشارع الكردي في تركيا، عند طلب الحكومة الحالية تفويضاً عسكرياً من البرلمان لا يستطيع نواب الحزب رفضه دون الاعتراف بعلاقتهم بحزب العمال الكردستاني الضمنية، مما يمهد لإجراءات قد تصل إلى حل "حرية الشعوب". معارضة أوربية إلى ذلك فأن هناك عقبة في التوافق الأميركي-التركي مرشحة للنمو باطراد حسب مجرى العمليات العسكرية التركية، وترتبط بمتغيرين؛ أولها أن حزب العمال الكردستاني وكافة الهيئات السياسية والعسكرية المرتبطة به برزت كأول قوى تحارب تنظيم داعش وتحقق انتصار عليه، وهو ما انعكس على تحسين صورة الحزب المصنف لدى واشنطنوأنقرة كتنظيم إرهابي، والصدى الجيد الذي نتج عن انتصارات مقاتلي وحدات المرأة الحرة والحماية الشعبية على داعش مهد لانفتاح أكثر في علاقات بين حكومات أوربية كبيرة مثل فرنسا وألمانيا وبين الحزب وهيئاته، سواء لدعم مجهود محاربة التنظيم، أو كورقة ضغط على تركيا بصفتها جار أوربي مزعج لفرنسا تحديداً، والأخيرة استبقت الترتيبات الأميركية-التركية، بإصدار مذكرة تحقيق أولية تتهم الرئيس التركي بشخصه وصفته بقتل ثلاثة قياديات-أحداهن هي سكينة جانسيز أحدى مؤسسي الحزب ورفيقة أوجلان- في حزب العمال الكردستاني منذ ثلاثة سنوات. المتغير الثاني يرتبط بمدى جدية أنقرة في التحول من دعم داعش إلى محاربته، خاصة في ظل الفضائح المتتالية التي أثبتت تورط العدالة والتنمية وأسرة أردوغان وأجهزة أمنية تركية في دعم مباشر للتنظيم الإرهابي دعم الناتو الجديد في هذه الجولة أن تركيا أرادت ربط معركتها مع الحزب في إطار المسعى الدولي ضد تنظيم داعش، ليس فقط من بوابة الإستراتيجية الأميركية، لكن أيضاً لكونها عضواً في حلف الناتو، حيث طلبت تركيا أمس اجتماع عاجل تحت البند الرابع للحلف العسكري الخاص بالتصدي لخطر خارجي تتعرض له أحدى دول الحلف، وبالتالي يمكن القول أن التوافق التركي الأميركي كان رهن معادلة مفادها أن تدعم واشنطنأنقرة في حلف الناتو، نظير سماح الأخيرة للقوات الأميركية باستخدام قاعدة انجرليك، حيث أن التحالف الدولي لمواجهة داعش يعمل بمعزل عن حلف الناتو، وذلك يحرم الولاياتالمتحدة من الميزة التي استغلتها إبان غزو العراق، وما يدلل على ذلك تصريحات المتحدث بأسم البيت الأبيض أمس بعبارات صريحة حول دعم إدارة أوباما للمساعي التركية الرامية إلى ضمان أمنها وأمن حدودها على حد قوله. لكن تصريحات المسئول الأميركي أتت على خلفية الاتفاق بين بلاده وتركيا خاصة فيما يخص استخدام قاعدة انجرليك، وتعهد الأخيرة بعدم استهداف مقاتلي وحدات حماية الشعب أو "المعارضة" السورية، وهو ما خالفته أنقرة في أولى غارتها، حيث استهدف معسكرات الأكراد، وكذلك تجمعات لما يسمى "الجيش الحر"، وذلك قبل ساعات من تصريحات رئيس الوزراء التركي، أحمد داوود أغلوا التي أكد فيها على تعهدات بلاده سالفة الذكر، وبالتالي يبقى الدعم الأميركي لأنقرة في حلف الناتو مرهوناً بوفاء الأخيرة بتعهداتها سواء فيما يخص عدم استهداف وحدات حماية الشعب، أو فيما يخص الإستراتيجية الأميركية المتعلقة بتدريب وتسليح ما يسمى بالمعارضة المعتدلة. أضف إلى ما سبق أن واشنطن عمدت إلى التفريق بين مختلف الفصائل الكردية المنضوية تحت راية وفكر حزب العمال الكردستاني، وخصت وحدات حماية الشعب فقط بنزع تعهد من أنقرة بعدم التعرض لهم، لكن الواقع يقول أن التحركات التركية خلال العام الحالي والماضي أتت على خلفية صمود هذا الفصيل في كوباني، وما تسبب فيه من رفع الروح المعنوية لملايين الأكراد في سورياوالعراقوتركيا وإيران وبلورة حلمهم القومي أكثر فأكثر، أي أن تكتيكات أنقرة في الشهور الماضية أتت كرد فعل ووقاية مستقبلية من أي خطوات كردية ساهم فيها بشكل أساسي حزب الاتحاد الديمقراطي وقوات حماية الشعب التابعة له، ناهيك عن كون هذا الحزب وذراعه العسكرية وغيره من الفصائل والأطر الكردية لا تفصل نفسها عن حزب العمال على هذا النحو الحاد الذي تريده واشنطن. الخلاصة: التوافق الأميركي- التركي يحمل في طياته الكثير من عوامل الضعف وخاصة من الجانب التركي، الذي لا يبدوا أنه يستطيع الوفاء بتعهداته للجانب الأميركي، أو حتى تحقيق نصر ميداني ضد مقاتلي حزب العمال الكردستاني، بالإضافة إلى بوادر اشتعال الداخل التركي وخاصة في المحافظات ذات الأغلبية الكردية في جنوب وجنوب شرق تركيا، ناهيك عن معارضة مكون رئيسي في المعادلة السياسية البرلمانية التركية الحالية للعمليات العسكرية، كما أن التوافق بين تركيا ودول إقليمية رئيسية كإيران يبدو بعيداً فيما يخص سوريا بالتحديد، حتى ولو كان هذا التوافق في سبيل التصدي لخطر يمس الدولتين، كما أن التدخل التركي في العراق له سقف محدد قائم على مدى التوافق مع حكومة أربيل التي لا ترغب في أن تقع في فخ الاحتراب الأهلي الكردي مرة أخرى مثلما حدث في التسعينات. ومن ناحية أخرى وحتى إذا وفرت دول الناتو –وهو أمر مستبعد بسبب معارضة فرنسا المتوقعة- غطاء سياسي وعسكري، فأن الحكومة التركية لا تستطيع أن تتجاوز في عملياتها العسكرية الضربات الجوية، وليس عملية برية، وهي اللازمة لتحقيق تقدم ملموس على مقاتلي حزب العمال المتمرسين في حروب الجبال والعصابات. وقبل كل هذا وذاك فأن مخطط الحكومة التركية الحالي ظهر لكافة الأطراف على اختلاف مأربها أنه لا يتجاوز استثمار سياسي ودعائي لانتخابات واستفتاءات قادمة ستعزز قوة أردوغان وحزبه حال فوزه بأغلبية فيها. موضوعات مرتبطة: