هناك الكثير من الحقائق التي تدفع بالإنسان إلى حقيقة يقينية واحدة، وهي الحقيقة الربانية القائمة على التوحيد، وترك التعددية والشرك الوثني، هذا ما قال به ابن رشد في معرض حديثه عن الحقيقة. لكل طائفة طريقتها في الوصول إلى الحقيقة، فهناك من يعتمد الخطابة كالفقهاء، وهناك من ينحى إلى الجدل الكلامي ك"الأشاعرة والماتريدية والمعتزلة و…"، وغيرهم يعتمد العرفان كالمتصوفة، وآخرون يفضلون البرهان كالفلاسفة. ولما كان ابن رشد فيلسوفًا كان لابد أن يتخذ البرهان العقلي سبيلًا للوصول إلى الحقيقة اليقينية، البرهان الذي لا يتعارض مع الشرع الرباني ما دام الحق لا يضاد الحق، بل يوافقه ويسير حذوه هدفًا ومقصدًا. يقول ابن رشد في كتابه "فصل المقال في تقرير ما بين الشريعة والحكمة من الاتصال": وإذا كنا نعتقد، معشر المسلمين، أن شريعتنا، هذه الإلهية، حق، وأنها التي نبهت على هذه السعادة، ودعت إليها وهي المعرفة بالله عز وجل، وبمخلوقاته، فإن ذلك متقرر عند كل مسلم من الطريق الذي اقتضته جبلته وطبيعته من التصديق، وذلك أن طباع الناس متفاضلة في التصديق، فمنهم من يصدق بالبرهان، ومنهم من يصدق بالأقاويل الجدلية تصديق صاحب البرهان، إذ ليس في طباعه أكثر من ذلك، ومنهم من يصدق بالأقاويل الخطابية كتصديق صاحب البرهان بالأقاويل البرهانية. ويكمل ابن رشد قائلًا: "إذا كانت الشريعة حقًّا، وداعية إلى النظر المؤدي إلى معرفة الحق، فإنا معشر المسلمين نعلم على القطع، أنه لا يؤدي النظر البرهاني إلى مخالفة ما ورد به الشرع، فإن الحق لا يضاد الحق، بل يوافقه ويشهد له." من هنا نعلم يتبين لنا المبدأ الذي ينطلق منه ابن رشد وهو كون: "الحقيقة واحدة وإدراك الناس لها يختلف بالدرجة فقط، وليس بالنوع". وبناء على هذا الفهم للحقيقة، ود ابن رشد إعادة هيكلة العلاقة بين الدين والفلسفة أو العقل والوحي، بما يحفظ لكل منهما مكانته وحضوره على مستوى القول المعرفي والبناء الاجتماعي. ولما تناول هذا الفيلسوف وحدة الحقيقة على مستوى الهدف والمقصد، وتحدث في الوقت نفسه، عن تنوع المنهج في الوصول إلى الحقيقة إن كان بيانيًّا أو برهانيًّا أو عرفانيًّا، كان هذا أدل شيء على انفتاحه على الخطابات الأخرى. وفي ذات الموضوع يورد أبو حامد الغزالي رؤية مغايرة، إذ يرى أن الحس والعقل يعجزان عن الوصول للحقيقة، من ثم لابد من الشك حتى يتحقق الهدف الأسمى وهو الوصول إلى الحق، الذي به تتحقق السعادة والفضيلة والكمال، فهو إذن يرى أن الحقيقة تنبني على الشك، سواء أكان ذلك الشك قائمًا على الحس أم العقل أم القلب. ويقول في كتابه "إحياء العلوم": "إن الحقيقة المطلقة يتم تحصيلها عن طريق القلب والإلهام عند الصوفية والأولياء والأصفياء، ويتم تحصيلها عن طريق الوحي عند الأنبياء، وتكتسب عن طريق الاستدلال والاعتبار والاستبصار عند العلماء، فاعلم أن العلوم التي ليست ضرورية وإنما تحصل في القلب في بعض الأحوال تختلف الحال في حصولها، فتارة تهجم على القلب كأنه ألقى فيه من حيث لا يدري، وتارة تكتسب بطريقة الاستدلال والتعلم؛ فالذي يحصل لا بطريق الاكتساب وحيلة الدليل يسمى إلهامًا، والذي يحصل بالاستدلال يسمى اعتبارًا واستبصارًا". هذا الرأي أثار حفيظة ابن باجة، فجاء فكتب في "تدبير المتوحد" رافضًا هذ النهج في إدراك الحقيقة، واعتبر أن العقل هو السبيل الوحيد الذي يؤدي للحقيقة اليقينية (حقيقة معرفة الله). رفض ابن باجة موقف الغزالي الذي قال بأن العالم العقلي لا ينكشف للإنسان إلَّا بالخلوة، فيرى الأنوار الإلهية، ويلتذ بها لذة كبيرة، مؤكدًا أن الغزالي "حسب الأمر هينًا، حينًا ظن أن السعادة إنما تحصل للمرء عن طريق امتلاكه للحقيقة بنور يقذفه الله في القلب، بل الحق أن النظر العقلي الخالص الذي لا تشوبه لذة حسية هو وحده الموصول إلى مشاهدة الله، أما المعرفة الصوفية بما تنطوي عليه من صور حسية فإنها تكون عائقًا عن الوصول إلى معرفة الله إذ هي تحجب وجه الحقيقة". المعرفة العقلية هي وحدها التي تقود الإنسان إلى معرفة نفسه بنفسه ومعرفة العقل الفعال، بحسب ابن باجة، وفي هذا يتفق ابن باجة وابن رشد. أما عن إمام فلاسفة الإسلام الفارابي فيرى أن الحقيقة لا يتم إدراكها إلَّا عن طريق العقل والحكمة، وأن الحقيقة الأولية والأزلية هي حقيقة الله أو حقيقة الوحدة التي صدرت عنها كثرة الموجودات والخلائق. وفي هذا الصدد يقول الفارابي: "العلم بالحقيقة ما كان صادقًا ويقينًا في الزمان كله لا في بعض دون بعض، وما كان موجودًا في وقت وأمكن أن يصير غير موجود فيما بعد، فإنا إذا عرفنا موجودًا الآن فإنه إذا مضى عليه زمان ما، أمكن أن يكون قد بطل، فلا ندري هل هو موجود أم لا، فيعود يقيننا شكًّا وكذبًا، وما أمكن أن يكذب فليس بعلم ويقين، فلذلك لم يجعل القدماء إدراك ما يمكن أن يتغير من حال إلى حال علمًا، مثلما علمنا بجلوس هذا الإنسان الآن، فإنه يمكن أن يتغير فيصير قائمًا بعد أن كان جالسًا، بل جعلوا العلم هو اليقين بوجود الشيء الذي لا يمكن أن يتغير، مثل: أن الثلاثة عدد فرد؛ فإن فردية الثلاثة لا تتغير، وذلك أن الثلاثة لا تصير زوجًا في حال من الأحوال ولا الأربعة فردًا، فالحكمة علم الأسباب البعيدة التي بها وجود سائر الموجودات كلها ووجود الأسباب القريبة للأشياء ذوات الأسباب، وذلك أن نتيقن بوجودها ونعلم ما هي وكيف هي وأنها وإن كانت كثيرة فإنها ترتقي على ترتيب إلى موجود واحد هو السبب في وجود تلك الأسباب البعيدة وما دونها من الأشياء القريبة، وأن ذلك الواحد هو الأول بالحقيقة، وأنه لا يمكن أن يكون إلَّا واحدًا فقط، وأنه هو الواحد في الحقيقة، وهو الذي أفاد سائر الموجودات الوحدة التي بها صرنا نقول: لكل موجود إنه واحد، وأنه الموجود الواحد هو الحق الأول الذي يفيد غيره الحقيقة، ويكتفي بحقيقته عن أن يستفيد الحقيقة عن غيره، ولا وجود أتم من وجوده، ولا حقيقة أكبر من حقيقته، ولا وحدة أتم من وحدته، ونعلم مع ذلك كيف استفاد منه سائر الموجودات الوجود والحقيقة والوحدة، وما قسط كل واحد منها من الوجود والحقيقة والوحدة." ونرى الفارابي هنا يميل إلى تقرير ما جاء بنظريته الشهيرة الفيض (الصدور)، فالحقيقة الجوهرية لديه هي حقيقة الذات الربانية التي خلقت العالم من العدم؛ وبالتالي فالحقيقة هي التي تقترن بالثبات واليقين والوحدة.