في الغالب، حين يطلب من الشخص الحديث عن المعلم والفيلسوف المسلم العظيم ابن رشد، يأتي في بالنا أولا وأخيرا إشكالية العقل والنقل، وما بذله فيلسوفنا من جهود مثمرة في هذا الشأن، وكنت أظن أن سبب تسليط الضوء الدائم على هذا الجانب من ابن رشد، هو أنه مورد ابتلاء الأمة في العصر الحاضر، حيث بات الصراع بين العقل والنقل شديدا، ومع بروز التيارات المتطرفة والتكفيرية والرجعية باتت الحاجة لرؤية كالتي طرحها ابن رشد عظيمة، فعلى ما يبدو أن هذه الجدلية كانت سببا محوريا في تأخر الأمة كثيرا، وما زلنا نعيش في ظلها إلى اليوم، صراعا كلاميا ممتدا بين أهل العقل وأهل النقل، لينتقل إلى التلفزيون شاغلا الرأي العام عن مشاكلنا الجوهرية والرئيسية التي تؤرقنا. سيظل الحال دائما ظلاميا مادام شغلنا الشاغل هو الجدل، فالجدل يؤدي دوما للانحدار الذي أوصلنا بالتبعية إلى حال مزرية، حيث لا عاد أهل العقل أهل عقل ولا أهل النقل أهل نقل، بل أصبحوا في أغلبيتهم هواة مرابين ومتاجرين بأقوال القدماء من الطرفين. هل نعلم أن هناك كتابين لابن رشد لم يصل إلينا نصهما العربي الأصلي؟ رغم أنهما أهم كتابين أثرا في الفكر الغربي الحديث، تأثيرا يفوق بمراحل كتب المعلم عن العلاقة بين العقل والنقل؟ الكتاب الأول هو "تلخيص الأخلاق" والكتاب الثاني هو "تلخيص جوامع أفلاطون". وعلى ما يبدو فإن فقدان هذين الكتابين دليل على انحدار اهتمامات الأمة وتركيزها فقط على الأمور الجدلية. بالطبع إشكالية العقل والنقل مهمة، ولها أهميتها، لكنها دائما ما تتحول بيد السلطة المستبدة من جهة، والمتاجرين بالدين وأعداء الدين من جهة أخرى لوسيلة هدم لا بناء. يتحدث المعلم في هذين الكتابين عن علم وفلسفة الأخلاق، وعلم وفلسفة الأخلاق هما الأساس الذي تنطلق منه العلوم السياسية والمجتمعية، وعلى مدار التاريخ الفلسفي الإسلامي قدم كل من الفارابي، وابن سينا، وابن باجة، تصوراتهم للمجتمع المثالي، وأتم هذا ابن رشد من حيث المضمون الفلسفي. إسهامات ابن رشد في هذا الجانب لا يمكن فهمها إلا من خلال سؤالين أساسيين؛ أحدهما يرجع إلى الفارابي، والآخر يرجع إلى ابن باجة، ويمكن إجمالهما في سؤال واحد، وهو عن علاقة الفيلسوف بالمدينة، فالفارابي، وابن باجة، لم يضعا إجابة شافية عن علاقة الفيلسوف بالمدينة عمليا، بل إن ابن باجة تحدث أكثر عن غربة الفيلسوف في المدينة الجاهلة، أما ابن رشد فقد طرح سؤاله: هل يظل الفيلسوف في غربته كما يذهب ابن باجة؟ أم أنه يمكن للفيلسوف في المدينة أن يفك عنه العزلة بل أن يصبح هو رئيسها؟ ومن هنا كيف نحقق هذه المدينة التي يصبح فيها الفيلسوف هو الحاكم وليس هو الغريب الذي يبحث عن العيش في جزر السعداء كما هو الأمر عند ابن باجة والفارابي؟ يتحدث ابن رشد عن الفيلسوف الذي يجب أن يقود المجتمع، وأن يكون هو ربان السفينة وقائدها، يتحدث عن "الحكومة العقلية" ويصف رحلة الفيلسوف الذي حين يحكم يستطيع بالفعل تحقيق السعادة للمجتمع، فهو يرى أن سياسة الملك الحق لا يمكن أن تكون إلا فيمن اجتمعت فيه خمس شروط: الحكمة، والتعقل التام، وجودة الإقناع، وجودة التخييل، والقدرة على الجهاد، وأن لا يكون في بدنه شيء يعوقه عن مزاولة الجهاد. و يجعل ابن رشد من الضرورة أن يتولى قيادة هذه المدينة فيلسوف. ويتحدث ابن رشد عن التاريخ الإسلامي فيرى أن المدينة الفاضلة أقيمت في عهد الرسول (ص) وربما في عهد الخلفاء الراشدين لأنهم كانوا يمتلكون الحكمة والعقل وكافة الصفات السابقة حتى عهد معاوية الذي بدأت معه المدينة الشهوية في التواجد. التبحر في هذا الجانب من المعلم وحديثه عن ارتباط العقل بالسياسة نحن أحوج من نكون إليه، ليحل محل الجدل حول علاقة العقل بالنقل، بل إن العاقل علم أن سيطرة العقل على النقل لن تكون صحيحة ومثمرة إلا في ظل حكومة عقلية حكيمة، يكون هدفها الأساسي نشر الفضيلة والسعادة في المجتمع. نحتاج بشدة الاطلاع على الوجه الآخر الذي افتقدناه من تراثنا، ونحتاج لا إلى ثورة على النصوص ولا إلى المناظرات الجدلية العقيمة التي لا تغني من جوع، وإنما نحتاج إلى عقلنة السياسة وتغليب الحكمة العقلية، نحتاج إلى ثورة سياسية لا دينية، ثورة تقيم حكومة الفلاسفة بالمعنى الحقيقي لكلمة "فلسفة"، فلا البحيري، ولا طه حسين، ولا الأزهريون ولا السلفيون ولا أي من أهل العقل والنقل استطاع حل مشكالنا؛ لأنهم جميها يدورون في فلك "المصارعة الرومانية" وتصفيق الجماهير، وإنما الحاكم العاقل الرشيد والسياسة المبنية على العقل والحكمة هي التي تنجي البلاد والعباد.