حالة هذيان وارتياب ووساوس، تسيطر على امرأة وحيدة على خشبة المسرح، تشاركنا تداعيات من حياتها وتسيطر عليها انفعالات حادة وألام تجبرها على الصراخ، في مونودراما "بارانويا"، الذي يعرض حاليًا على خشبة مسرح الهناجر، النص من تأليف رشا فلتس، بطولة ريم حجاب، وإخراج محسن حلمي. العالم الذي تحيا فيه الشخصية الوحيدة، كابوسي تختلط فيه الذكريات والوساوس، مع جنون الارتياب، فلا نعرف ما الحقيقي من المتخيل، في عالم تلك المرأة المسكونة بالخوف، والتي دائما ما تجفل من صوت، يمثل قوة أعلى نافذة ومسيطرة عليها، ربما هو الآخر/ الرجل.. المجتمع.. سلطة ما. فالنص مفتوح على قراءات منوعة تتحول مع مخاوف المرأة، من صوت مهيمن يسحقها، إلى البحث عن قوة موازية تلجأ لها، في اقتباسات من الإنجيل، منحت العرض ظلالًا روحانية وفلسفية. عالم مشحون بخيالات راحلين، مروا بحياتها وتركوا تشوهات في روحها، تعاظمت بتراكمها، حتى صارت قوة عليا تتحكم في حياتها. فالشخصية يصاحبها طوال الوقت صوت الآخر، محتلا مساحة فوقية يتحكم من خلالها في حياتها، يدمر ثقتها بنفسها ويشكل عالمها كما يريد، وتظل تروح وتجيء بين أفكارها الخاصة، وما تفرضه تلك السلطة العليا من أفكار. خلال هذه التداعيات تستدعي ذكريات مؤلمة.. رحيل الجدة ومكوثها وحدها مع جثمانها، فلم يحتط أهلها لمشاعر ومخاوف طفلة صغيرة، مما جعها تختبر الإحساس بالخوف، مقترنا بالجدة التي أحبتها كثيرًا، ثم انهيار علاقتها بخالها، بعد تحرشه بها، بالتزامن مع إدانته لمشاعر حب بريئة جمعتها بشاب من سنها. العرض يحاكم نصوص ومقولات سلبية تدفع المرأة دائما إلى الخلف. فالصوت العلوي، المسيطر، دائما ما يعنفها: "ماذا تفعلين؟".. "لن تستطيعي أن تري".. "دعيني أقودك إلى مكان آمن". ما ينعكس على رؤيتها لنفسها: عمياء، فارغة، ليست موجودة أصلا. وحين تنتبه: "يتكلمون في رأسي.. يحاولون تشويهي"، في جدل يتشكل في صورة صراع ومحاولة التخلص من هذه السلطة "اخرج من داخلي، اخرج من حياتي"، تحاول استحضار قوة أعلى، تواجه بها القهر.. متعدد الأشكال والمستويات. ليتحول الصوت العلوي من مهيمن قاس، إلى راعي رحيم، تلوذ بآيات الإنجيل: "لا تخافى إنى معك، أنا الذى شكلتك".. "إذا سرت فى وادى ظل الموت.. لا أخاف شراً.. لأنك أنت معى".. "جئت للضعفاء وليس للاقوياء". وعلى مدار العرض، تخلع المرأة طبقات من ملابسها، كأنها "تقشر" عنها تراكمات تثقل كاهلها، وفي المقابل تفتح مساحات مجهولة من ذاتها. بموازة هذا العالم، في عقل وروح البطلة، قسّم المخرج خشبة المسرح إلى مستويين. الأول، عالمها البسيط، أريكة ترتاح وتنام عليها، وتواجه كوابيسها، وكرسي أمامه مرآة وملابس واكسسوارات. الثاني، في مستوي أعلى، على جانبي المسرح، نرى خلف شاشة شفافة دميتين ضخمتين، تدوران بشكل آلي، خلال فواصل التداعيات، التي تتوالي كأنها محطات في حياتها، وبين المستويين، مساحة، ممر ما، بين عالمها البسيط,, وجانبي العالم الخيالي للدميتين المهيمنتين، تستخدمه المرأة كمنفذ لمحاولة الهروب والبحث عن منقذ. والنص، الأول لمؤلفته، جاء في معظمه بالفصحي مع لمحات عامية نادرة. ونجح الديكور، صممه محمد العبد، في معادلة رحلة عقل ووجدان "ضحية المجتمع، عازفا على "منظومة اضطراب" لها منطقها الخاص. وكذا، مثلت الموسيقي، لعمرو سليم، فواصل هامة بين محطات الهذيان، رغم اعتمادها تيمة واحدة، لا تنحاز لدلالة محددة، مؤشرة إلى حالة الاستنزاف المتواصلة، المتكررة، للبطلة. البطلة، ريم حجاب، سيطرت تماما علي شخصية شديدة الصعوبة، وعلى مشاعر وانفعالات متناقضة، بحساسية مرهفة، مستفيدة من لياقتها الجسدية والفنية كممثلة وراقصة، وانقذت العرض، بحيويتها، من طول النص وترهله في مشاهد عدة.