فتاة خائفة مع دميتين كبيرتين فى فضاء مسرحى يوحى بالقسوة والخواء و يبعث على الخوف ليس فقط لمن هم فى حيز اللعب، بل يمتد هذا الشعور إلى الجمهور ، دمية إلى اليمين وأخرى إلى اليسار وما بينهما ممر، وموسيقى صاخبة حيث تلهو الدمى قبل أن تظهر الممثلة أمام الجمهور وتبث خوفها وما تعانيه من رعب وقهر ، وحين يضاء حيز اللعب على الممثلة فى مقدمة المسرح نستمع معها إلى صوت يهددها صارخاً : أنا أسكنك ، أنا بداخلك ، وسوف يظل يهدد الفتاة التى هى بطلة العرض المسرحى «بارانويا» ويثير انفعالاتها حتى النهاية من خلال النص الذى كتبته رشا فلتس وأخرجه محسن حلمى فى مسرح الهناجر ويجسد حكاية فتاة تتعرض للقهر الذى تتعرض له غالباً المرأة فى العالم الثالث، وقد اختارت الكاتبة قالب المونودراما لطرح هذه الأفكار المتناقضة لبطلة النص المريضة بمرض جنون الارتياب العقلى «البارانويا» وهى حالة مرضية ذهنية تتميز باعتقاد باطل راسخ يتشبث به المريض على الرغم من قيام الأدلة الموضوعية على عدم صوابه ، فثمة هذيان يتسم بالمنطق على الرغم من أنه منطق لا أساس له من الصحة، ويدرك المشاهد حجم المأساة وأبعادها منذ اللحظات الأولى عن مرضها ، وينتظر المشاهد اللوحات التى سوف تعرضها هذه الفتاة من حياتها ، وتجسد من خلالها أعراض هذا المرض وأسبابه فى حياتها الذى يتطور ببطء ويصبح مع الوقت منظماً لدرجة يبدو معها منطقياً وموضوعياً ، وسوف يتطور دور الشخص الساكن بداخل هذه الفتاة ، وسوف تحاول إخراجه «اخرج من ذاتى، اخرج من حياتى» وتسرد فى مجموعة من المشاهد أسباب هذه الحالة، مشاهد تفصل بينها الموسيقى وحركة الدمى التى تدور خلف حيز اللعب الذى يشهد ساعة من الهذيان العقلى، وكلما رقصت هذه الدمى حل الظلام فى حيز اللعب الذى هو فضاء الهذيان العقلى لهذه البائسة، وتتطور العلاقة بينها وبين هذا الصوت / الشبح الذى يعذّبها إلى حالة حوار ، يخاطبها « أنتِ لا شيء، أقل من متسولة، بل شرف لكِ أن تكونى متسولة «وهى تصرخ» أنا وجودى غلطة أزعجت الناس «فبعد أن تحكى عن حياتها وتفاصيل القهر الذى تشعر به من الجميع والذى هو أمر طبيعى بالنسبة لهذا المرض، لجمهور يعرف دون شك الحالة التى سوف يضعه فيها عرض يحمل هذا العنوان «بارانويا» وخاصة إذا كان هذا العنوان وما يحويه من أفكار فى قالب المونودراما التى تطرح بدورها مفهوماً أحادياً من خلال التداعيات الذاتية لشخص واحد ، لذلك يتطلب الأمر نوعاً من العلاقات بين هذه الذات والآخرين ، علاقة تتسع معها الرؤية، ولا تقيّد فيها الدلالة وتنحسر فى أفق ضيق يقف عند حدود بطل المونودراما الوحيد بل تتسع هذه الدلالة لتتماس مع حالات متشابكة لخلق حالة مسرحية من خلال ممثل واحد ، وقد لجأت كاتبة النص إلى فلسفة النص الإنجيلى لتكون البناء العميق للنص مع إعادة الصياغة اللغوية فى بعض الأحيان والإحتفاظ بالمعنى لتمنح النص بعداً ميتافيزقياً ، بالإضافة الى الهذيان العقلى و مجموعة الشخصيات التى تخاطبها وتشاركها الأحداث مثل الجدة وموتها الذى كان فارقاً فى حياة البطلة وشخصية الخال الذى حاول الاعتداء عليها جنسياً ، ناهيك عن طبيعة الشخصية ومرضها الذى يجعل المشاهد يفكر ويتساءل هل وقعت هذه الأحداث أم لا؟ فمريض البارنوايا يسىء فهم الملاحظات والإشارات التى تصدر من الآخرين، لقد ساهم البعد الميتافزيقى و الشخصيات التى هى موضع شك وريبة فى تجاوز النص مأساة البطلة الشخصية ووضعها فى نسيج درامى يتجاوز هذه الذات الأحادية إلى طرح قضية عامة وهى قهر المرأة ووضعها المتردى فى العالم الثالث .
فى خضم هذا الهذيان العقلى الذى هو الأساس فى النص كانت مهمة المخرج محسن حلمى صعبة فى أن يجد حلاً للمنظر المسرحى لفتاة وحيدة تهذى على خشبة المسرح على مدى ساعة فى قالب المونودراما ، فحاول إيجاد نقاط ارتكاز للممثلة من خلال وجود أغراض لها صفة دلالية بديلاً عن الشخصيات الأخرى الغائبة ، وبديلاً عن الهذيان العقلى للبطلة ، حيث قسّم الفضاء المسرحى إلى مستويين الأول فى مواجهة الجمهور وهو حيز اللعب والثانى فى خلفية المسرح ، فضاء الدميتين ، وبينهما ممر سوف تستخدمه الممثلة للهروب أحياناً، وللبحث عن طوق نجاة من أفكارها وأوهامها فى أحيانٍ أخري، وهذا المستوى ربما يوحى للمشاهد بما يدور فى عقل البطلة ، وفى حيز اللعب أريكة إلى يمين المسرح سوف تكون مسرحاً لأغلب الحكايات، وإلى اليسار مرآة ومجموعة من الملابس المتناثرة ، وسوف تحاور الممثلة هذه الأغراض وخاصة المرآة التى تتأمل فيها الذات وتخاطبها كلما هاجمتها الكوابيس ، لقد جعل المخرج الممثلة تتحرك فى حيز اللعب طيلة زمن العرض حتى لايصاب المشاهد بالملل وجعل منه قسمين الأول للأحلام المزعجة والكوابيس وفيه أريكة تستخدمها الممثلة فى أغراض عديدة منها البوح والصراخ وسرد قصصها والثانى أمام المرآة تخاطب ذاتها والشخص الذى يسكنها مع مجموعة من الأغراض / الملابس ، وفى بعض الأحيان تحاول طرده ، تقشر ذاتها أو تخلع ملابسها الكثيرة التى تقيدها وكأنها حمل ثقيل ترغب فى التحرر منه ، ويدرك المشاهد بعد دقائق من المشاهدة أن ثمة شخص آخر يسكن هذه الفتاة وهو المُنقذ وليس معذبها وقاهرها، وتخاطبه فى لغة إنجيلية وتستعير كلماته لتواجه الصوت الشرير ، وتلعنه وتزجره كما كان يفعل السيد المسيح مع الشياطين حتى تخرج من البشر، وكان المخرج حريصاً على تقديم المونودراما من خلال مشاهد هى حالات مختلفة لهذا الارتياب العقلى ، مشاهد تتطور درامياً، ويفصل بينها موسيقى عمرو سليم ، هذه الحالات أو المشاهد التى حرص المخرج على أن تكون مجموعة من اللوحات التى تطرح مجموعة من الصور والمشاهد من حياة هذه الفتاة من خلال نسيج درامى يتجاوز هذه الذات الأحادية من خلال الأداء التمثيلى والتعبير الحركى والموسيقى والإضاءة والأغراض التى لعبت دوراً كبيراً فى العرض مثل الدمى والمرآة والملابس ، فثمة لوحة عن الجدة وفيها تحاور الفتاة الموت من خلال استعادة لحظات جلوسها إلى جوار الجثة وعمرها ست سنوات وكيف تركها أهلها فى هذا الموقف العصيب فى سن مبكرة دون تقدير لحجم المعاناة التى عاشتها ، أو لوحة أخرى حول علاقتها بخالها الذى يرفض أن يكون لها علاقات مع آخرين ويحاول الاعتداء عليها ! ثم تتغير الصورة قليلاً وتبدو اللغة الإنجيلية واضحة ، ويرتفع الصوت الداخلى هذه المرة بالطمأنينة «لا تخافى إنى معك ، أنا الذى شكلتك» وهى نفس الجملة التى كانت فى اللوحة الأولى مصدراً للقهر ، وكأنها فى طريقها للتخلص من هذا الشر الذى يسكنها، وتنتابها مرة أخرى الكوابيس، تحدث لها نكسة مثل أى مريض، وتصرخ أمام المرآة: لا أشعر بوجودكم ، وتخاطبها النفس الشريرة مرة أخرى ، ولا يتركها الصوت الطيب فيتردد فى آذانها «أيضاً إذا سرت فى وادى ظل الموت لا أخاف شراً لأنك أنت معى» من المزمور الثالث والعشرين لداود النبي، مع بعض التعديل اللغوى فى الكلمات ،وهنا يبدو للمشاهد أن الفتاة المريضة تُبعث من جديد، وتواجه الجمهور: «لازم أتجوز، لازم أخلّف ، ويصبح لى مكانة مشرّفة فى المجتمع» ثم ترتد مرة أخرى «أنا منسحقة أمام الحياة ، أنا ولا حاجة، أشعر بالعارمن هذا الوجود» وقد استطاع المخرج المتميز محسن حلمى ترجمة هذه المشاهد المتناقضة التى توحى بالوهم والحقيقة فى آن ، إلى صورة بصرية توحى بهذا التناقض مع ريم حجاب التى أدت دور الفتاة و كان لها دور كبير فى تجسيد هذه الصورة لأن المونودراما تقوم على مهارة الممثل فى الأداء لقيامه بعدة أدوار فى العرض وتقمصه لحالات متعددة فى أمكنة وأزمنة متنوعة ، وقد كان اختيار محسن حلمى للفنانة ريم حجاب لأداء هذا الدور صائباً، فهى ممثلة وراقصة مسرحية ليضيف إلى الأداء التمثيلى بُعداً مهماً يحتاجه العرض ويناسب بطلته المريضة بالارتياب العقلى وهو التعبير الحركي، لذلك استطاعت أن تتنقل ليس فقط بين أزمنة وأمكنة متعددة بل تجسيد مراحل هذا المرض وتطوراته فى العرض من خلال الأداء التمثيلى والتعبير الجسدى و هو جزء من بنية النص الذى يطرح قهر المرأة من خلال الجسد موضوع المشكلة ، وقد نجحت ريم حجاب فى أن توحى بالعديد من الشخصيات الغائبة عن اللعبة بجسدها وحاضرة بأفعالها فى رأس البطلة ، وأن تجسّد هذه الحالات التى جمعت بين الإحساس بالقهر والبحث عن الطمأنينة فى نص استفاد من حالة البارانويا كمرض عقلي، ومن فلسفة الإنجيل فى فكرة الخلاص والشعور بالخطيئة مع بعض التعديل اللغوى .