صدر مؤخرًا، عن دار نشر الساقي، نسخة جديدة من رواية «ملعون دوستويفسكي»، للروائي عتيق رحيمي، التي يقدِّم فيها صورة مأسوية عنيفة عن أفغانستان، من خلال جريمة قتل تتماهى مع قتل راسكولنيكوف المرابية العجوز في «الجريمة والعقاب» لدوستويفسكي. من أجواء الرواية: «نعم، أقدم رسول على قتل عجوزة لينقذ من البؤس خطيبته وأخته وأمه لكنّه لم يلقَ المصير الذي لقيه شبيهه راسكولنيكوف! فجريمته لم يُعثر فيها على جثة، ولم يوجد لها شهود، ولا ما يثبت السرقة! أكانت جريمة خيالية؟ جريمة مُتوَهَّمة؟ لا لشيء إلا لتسليط الضوء على عبثية القتل في أفغانستان الغارقة في حروبها الأهلية؟!». ولد عتيق رحيمي في مدينة كابول سنة 1962 وتابع دراسته في الثانوية الفرنسية الأفغانية، ثم في الجامعة، عاش ظروف الحرب الأفغانية بين سنتي 1979 و1984، ثم لجأ إلى باكستان التي سيغادرها إلى فرنسا بعد أن حصل على وضعية لاجئ سياسي، وهناك سوف يحرز دكتوراه في التواصل السمعي البصري من جامعة السوربون، ويخرج أفلاماً وثائقية عديدة، قبل أن ينجز فيلمه الروائي المطول الأول انطلاقاً من روايته «أرض ورماد»، وينال عنه جائزة «النظرة نحو المستقبل» في مهرجان «كان» سنة 2004. روايات الكاتب الأفغاني عتيق رحيمي، الحاصل على جائزة جونكور عام 2009، تحاول جاهدة البحث عن معنى للقيم التي يخضع لها الغرب، الذي يعيش فيه، ويكتسب منه ثقافته، وفي زيارة له إلى العاصمة الإسبانية مدريد، للترويج لروايته الأخيرة "ملعون دوستويفسكي" في نسختها الإسبانية الصادرة عن دار النشر "سيرويلا" يقول المؤلف الذي يتّخذ من الحدث الأبرز في رواية الأديب الروسي "الجريمة والعقاب"، نقطة إنطلاق لبناء شخصية روايته "ملعون دوستويفسكي": كان أوسكار وايلد يقول، إنه لم يعد هناك ما يمكن أن نضيفه الى ما قاله دوستويفسكي عن الكائن البشري، وبصورة خاصة، الجانب الأكثر سوداوية فيه، لكن، عندما عدتُ عام 2002 إلى أفغانستان، ورأيت كيف يسير سادة الحروب في الشارع، داخلني إحساس الفضول لمعرفة فيما لو كان هؤلاء، في لحظة ما، قد شعروا بالذنب للرعب الذي زرعوه من دون سبب، حينها فكرت في الكاتب الروسي دوستويفسكي وروايته "الجريمة والعقاب". «البديل» تقدم للقراء فصل من الرواية، بترجمة حسن بحراوي: ما إن رفع رسول البلطة ليجهز على رأس السيدة العجوز حتى عبَرت ذهنه قصة «الجريمة والعقاب». صعقته الفكرة. ارتعشت ذراعاه، وترنّحت ساقاه، وأفلتت البلطة من بين يديه لتشقّ جمجمة المرأة وتنغرز فيها. ومن دون أدنى صيحة، تهاوت العجوز على السجاد ذي اللونين الأحمر والأسود. استمر حجابها الذي تزينه زهور التفاح يرفرف في الهواء قبل أن يحط على جسدها الممتلئ والواهن. كانت تهزّها التشنجات وهي تلفظ آخر أنفاسها، أما عيناها الجاحظتان فقد ظلتا تحملقان في رسول، الذي كان لا يزال يقف وسط الغرفة، مبهور الأنفاس، وقد امتقع لونه حتى صار أكثر دكنة من جثة. كان شالهُ يسقط على كتفيه الناتئتين، ونظرته المرتعبة مشدودة إلى سيل الدم الذي ينزف من جمجمة العجوز، ويختلط بحمرة السجاد، مغطياً خطوطه السوداء، ثم يسيل ببطء باتجاه يدها البدينة التي كانت لا تزال تمسك بحزمة الأوراق النقدية. سيلطّخ الدمُ النقود. تحركْ يا رسول، تحرك. جمودٌ تام. رسول؟ ما الذي دهاه؟ فيمَ يفكر؟ في «الجريمة والعقاب». هكذا إذن، في راسكولينكوف، في مصيره. ألمْ يدُر ذلك في خلده أبداً، عندما كان يعدّ لجريمته ويُقبل على ارتكابها؟ الظاهر أنه لم يفعل. أين كانت هذه القصة مخبأة يا ترى؟ في أعماقه؟ هل تكون هي التي حرّضته على القتل…؟ أو ربما… ربما ماذا؟ هل تراه الوقت المناسب فعلاً للتأمل في فعلته؟ الآن وقد أجهز على المرأة العجوز، لم يعد أمامه سوى الاستيلاء على نقودها وحليّها… والهروب. الهرب؟ هو لا يتحرك.. يظل مسمّراً في مكانه وقد أضناه الضجر، مثل شجرة. مثل شجرة ميتة مغروسة في أرضية المنزل. كان بصره يواصل النظر إلى خيط الدم الذي يكاد يلامس يد المرأة. لينسَ المال الآن، وليغادر المنزل، بسرعة، قبل وصول شقيقة المرأة العجوز. شقيقة العجوز؟ هذه المرأة ليس لها أخت، إن لها بنتاً. لا يهم، سواء أكانت شقيقتها أم ابنتها، هذا لا يغير في الأمر شيئاً. أي واحد يدخل البيت في هذه اللحظة سيكون رسول مضطراً للإجهاز عليه هو كذلك. ينحرف خط الدم بعد أن كاد يلامس يد المرأة، إنه الآن يسيل على الجزء المرقّع من السجاد البالي ويشكّل حوله ما يشبه البركة، غير بعيد من صندوق صغير من الخشب مملوء عن آخره بالسلاسل والقلائد والأساور الذهبية والساعات… ما الذي يعنيه من سرد كل هذه الجزئيات؟ تناول الصندوق والمال وانسحب. أقعى رسول. يده تتردد في انتزاع الأوراق المالية من راحة المرأة. كانت قبضتها قد صارت الآن متصلبة، مشدودة وتمسك بحزمة الأوراق كما لو أن صاحبتها ما تزال على قيد الحياة، حاولَ مرة أخرى، بدون جدوى. تحت تأثير الاضطراب تتركز نظرته على عيني المرأة فاقدة الروح. يرى انعكاس صورة وجهه في حدقتيها. تذكّره عيناها الجاحظتان بأن آخر ما تحتفظ به الضحية هو صورة قاتلها مرسومة في عينيها. يجتاحه الخوف. يتراجع. تتوارى ببطء صورته التي ظهرت على قزحية عين العجوز خلف جفنيها. تردد صوت امرأة في أنحاء البيت: «نانا عالية؟». ها قد جاءت، إنها هنا، تلك التي لم يكن عليها أن تأتي، لقد قُضي على رسول.. «نانا عالية؟». مَن تكون هذه المرأة؟ ابنتها؟ كلا، هذا ليس صوت طفلة. مهما يكن، لا أحد له الحق في غشيان هذه الغرفة. «نانا عالية؟».يقترب الصوت. «نانا عالية؟»، يصعد الأدراج. ارحلْ يا رسول.. ينطلق مثل قشة تبن باتجاه النافذة، يفتحها ويقفز إلى سطح المنزل المجاور، متخلّياً عن كل شيء، الشال والنقود والحلي والبلطة…كل شيء. عندما يبلغ حدود السطح، يتردد في القفز إلى الزقاق. ولكن الصيحة المرعبة التي بلغت سمعه آتيةً من غرفة نانا عالية هزت ساقيه، وسطح البيت، والجبل القريب…رمى بنفسه في الهواء وحطّ بعنف على الأرض. اخترق ألمٌ شديد عرقوب قدمه. لا أهمية لذلك. يتعين عليه النهوض. الزقاق خال. عليه أن يفلت بجلده. انخرط في العدْو. صار يجري. ظل يجري من غير أن يعلم أين يتجه. لم يتوقف سوى وسط ركام من الأزبال، عند نهاية درب بلا منفذ تنبعث منه روائح نتنة تلهب الأنف. لكنه لم يكن يشم شيئاً. أو أنه لم يكن يعير ذلك اهتماماً. بقي هناك، واقفاً، مستنداً إلى جدار وكان ما يزال يبلغه صوت المرأة الحاد، لم يعد يميز فيما لو كانت المرأة هي التي تواصل الصياح أم أن الصوت قد ظل يتردد في أعماق كيانه. حبسَ أنفاسه. كان الصراخ قد توقف فجأة ولم يعد له وجود لا في الزقاق ولا في رأسه. انفصل عن الحائط لكي يعاود المسير. كان ألم عرقوبه يشلّ حركته. والتشنجات تملأ وجهه. عاد إلى الاتكاء على الجدار من جديد، ثم قرفص لكي يدلّك قدمه. لكن شيئاً ما بدأ يغلي في داخله. تأخذه حالة من الغثيان فينحني قليلاً ليتقيَّأ سائلاً أصفر. كان الزقاق المسدود بكل قاذوراته يدور حوله. أمسك رأسه بكلتا يديه، وألصق ظهره بالجدار. ثم ترك جسمه ينزلق نحو الأرض. بقي لعدة لحظات مغلق العينين، جامداً، معلق الأنفاس، كما لو أنه يتأهب لسماع صيحة أو شكوى، تتناهى إليه من منزل نانا عالية. ولكن لاشيء. لاشيء سوى خفقان الدم في صدغيه. ربما كان قد أغمي على تلك المرأة وهي تكتشف الجثة. تمنى أن لا يكون قد حصل ذلك. مَن تكون هذه المرأة الشيطانية التي أفسد مجيئها عليه كل شيء؟ هل كانت امرأة حقاً؟ ولمَ لا تكون دوستويفسكي؟ نعم، دوستويفسكي نفسه. فهو الذي بواسطة «الجريمة والعقاب» صعقني وشَلَّ حركتي. وحال بيني وبين اقتفاء خطوات بطله، راسكولينكوف: أي منعني من أن أقتل امرأة ثانية، بريئة هذه المرة..وأستولي على المال والحلي اللذين سيظلان يذكرانني بجريمتي..وأن أصير فريسة الندم وأغرق في لجة الشعور بالذنب، وأنتهيَ أخيراً إلى سجن الأشغال الشاقة… كان ذلك سيكون أفضل من أن أهرب مثل كائن بليد، مجرم غبي. ملطخ اليدين بالدماء ولكن خاوي الجيوب. أي عبث هذا..؟ اللعنة على دوستويفسكي.. كانت يداه تمسكان بوجهه بعصبية، قبل أن تتوغلا في شعره القصير المجعد وتلتقيان خلف رقبته المتصببة عرقاً. وعلى حين غرة تملّكته فكرة قاهرة: ماذا لو لم تكن المرأة هي ابنة نانا عالية، ألا يكون بوسعها أن تنهب كل شيء وتنسحب دون أن يلحظها أحد؟ وأنا ماذا سيفضل لي؟ وما الذي سينوب من ذلك والدتي وأختي دنيا وخطيبتي صوفيا؟ أليس من أجلهن تحديداً قمتُ باقتراف هذه الجريمة؟ ليس لهذه المرأة الحق في أن تستفيد وحدها من هذه العملية. عليّ أن أعود إلى المكان، وإلى الجحيم عرقوب قدمي… ينهض. ويعاود السير. العودة إلى موقع الجريمة. أيّ شرَك هذا..أنت تعرف مثلما يعلم الجميع جيداً بأن العودة إلى مسرح الجريمة تعتبر خطأً فادحاً. خطأً انتهى بإلقاء القبض على عدد متزايد من المجرمين المهرة. ألمْ تسمع بتلك الحكمة القديمة التي تقول: ما أشبه المال بالماء، فهو إذا ما ذهب لا يعود أبداً؟ كل شيء انتهى الآن. وعليك ألا تنسى أبداً بأنه لا تتاح للمجرم سوى فرصة واحدة في العملية الواحدة، وإذا ما ضيّعها، قُضي الأمر، وكل محاولة لاستعادة ما ضاع تنتهي حتماً إلى الفشل الذريع. يتوقف، يلقي بنظرة على الجوار، يواصل السير، غير مقتنع بأقوال الحكماء. يمضي بخطوات مصممة وسريعة، يصل إلى مفترق زقاقين. يتوقف من جديد لوقت وجيز يكفي فقط لاستعادة أنفاسه قبل أن يدلف إلى الزقاق المؤدي إلى مكان الجريمة. لنأمل أن تكون المرأة قد فقدت وعيها فعلاً بالقرب من جثة العجوز. ها هو الآن في زقاق الضحية. فاجأه الصمت الذي يرين على المنزل. كان هناك كلب هزيل يقعي في ظل الجدار، عندما رآه غادر مكمنه بتثاقل وأصدر صوتاً واهناً أشبه بدمدمة، تجمد رسول في مكانه، غمره التردد، ترك الوقت يمر ليقنع نفسه، على مضض، ببلادة فضوله. وعندما كان يهمّ بالانطلاق، سمع وقع خطوات تتحرك في ساحة منزل نانا عالية. وتملكه الهلع فلجأ للاحتماء بأحد الجدران. تخرج من المنزل امرأة تلبس برقعاً أزرق سماوياً يغطي جذعها، ومن دون أن توصد الباب خلفها، أسرعت بمغادرة المكان. لابدّ أنها هيّ؟ بعد أن استولت على المال والحلي، ها هي ذي تطلق ساقيها للريح.. آه، كلا..أين تذهبين هكذا، أيتها اللعينة؟ ليس لك الحق أن تمسّي ذلك المال وتلك الحلي. إنها مِلك لرسول. قفي مكانك.. ضاعفت المرأة من سرعة خطواتها، واختفت في الزقاق. ومع أن مفاصل قدمه تؤلمه، فقد انطلق رسول يتعقبها. عثر عليها أخيراً في ممر معتم. سمع وقع خطوات، وصياح مراهقين ينحدرون من الزقاق، مما وضع حداً لانطلاقه. التصق بالجدار ليختفي وراءه. ومع أنها كانت تمضي مسرعة فقد فسحت الطريق لعبور الأولاد. وفي لحظة التقت نظرتُها، المطلة من تشبيك البرقع، بنظرة رسول الذي استغل هذه المناسبة لتدليك عرقوبه الذي يؤلمه. عاودت المرأة السير في أعقاب المراهقين بخطوات أسرع وأكثر اضطراباً من السابق. ومع أنه كان يعرج بقدمه، وأنفاسه متقطعة، فقد انطلق من جديد يتعقبها. وعند أحد التقاطعات، ستنعطف المرأة نحو زقاق أوسع وأكثر امتلاء بالمارة. وعندما بلغ رسول ملتقى الطرق سيتوقف فجأة وهو ينظر بدهشة إلى عشرات النساء لابسات البرقع ذي اللون الأزرق وهن يسرن بسرعة. تُرى أية واحدة منهن سيقوم بتعقبها؟ مغموراً باليأس سيتقدم على غير هدى وسط هذا السيل من النساء المحجبات. مترصداً أقل إشارة تدلّه على المرأة التي ظل يتعقبها: لطخة دم مثلاً على أطراف البرقع، صندوق تخفيه إحداهن تحت ذراعها، السير المستعجل المثير للشبهات لإحداهن…ولمّا لم يقف على أي شيء من ذلك اجتاحه دوار. قاومَ حتى لا ينتهي به إلى الإغماء. ومن جديد شعر بالغثيان، وتصبب عرقاً وهو يلجأ إلى الجدار حيث انثنى إلى نصفين لأجل أن يقيء من جديد سائلاً أصفر. أمام نظراته البلهاء كانت تعبر أقدام المارة متتابعة. وبما أن قواه كانت قد خارت، فإن الأصوات لم تعد تصله كما كانت في السابق، كل شيء صار غارقاً في الصمت: حركة المارة في ذهابهم وإيابهم، أحاديثهم، ضوضاء الباعة المتجولين، أصوات أبواق السيارات وضجيج حركة المرور… كانت المرأة قد اختفت تماماً. تاهت وسط هذه الغابة من النساء اللواتي لا وجه لهن. ولكن، كيف أمكنها أن تفرّ وتترك نانا عالية – وهي إحدى قريباتها دون شك- في تلك الحالة؟ لقد صرخت فحسب، وهذا كل ما استطاعت فعله. بل إنها لم تقم حتى بطلب النجدة. بأية مهارة رتّبتْ لعمليتها ونفذتها بالاستيلاء على كل شيء. وكل ذلك من غير أن ترتكب أية جريمة..ابنة الفاعلة.. صحيح أنها لم ترتكب أية جريمة، ولكنها اقترفت خيانة في حق إحدى قريباتها. والخيانة أقبح من الجريمة. الوقت غير مناسب لإعداد نظرية في الموضوع يا رسول. انظر، هناك شخص يمنحكَ صدقة، عملة من فئة خمسين أفغاني. مَن يظنني، هذا الإنسان؟ متسولاً دون شك. تجثو بهذه الطريقة البئيسة على الرصيف، بثياب بالية ومتسخة، وبذقن غير حليقة، وعينين غائرتين وشعور قذرة، ولذلك فأنت أكثر شبهاً بمتسول منه بمجرم. ولكنك متسول لا يتهافت على النقود. كان الرجل يلحّ، وقد استغرب لسلوك هذا الشحاذ، وهو يلوّح بالورقة النقدية أمام عيني رسول الزائغتين، ولكن دون جدوى. وأخيراً ها هو يدسّها في يده المتيبسة ويمضي. فيما يُلقي رسول بنظرته نحو الورقة المالية. هو ذا ثمن جريمتك.. ارتسمت ابتسامة ممضّة على شفتيه المرتجفتين، أطبق قبضته واستعد للوقوف. ولكن صوتاً مرعباً دوّى بغتة جعله يتسمر في مكانه. لقد انفجرت قذيفة. واهتزت الأرض في الجوار. بعض الناس يرتمون على الأرض، آخرون يعْدون ويصيحون. ثم ها هي قذيفة أخرى تنفجر، في مكان أقرب، وبطريقة أعنف. رمى رسول بجسده على الأرض. كان كل شيء حوله غارقاً في الفوضى والصخب. ومن حفرة نارية عميقة كان ينبعث دخان أسود يكتسح الحي كله ويغطي سفح جبل «أسمعي» القائم وسط كابول. بعد بضع دقائق بدأت رؤوس، تشبه نباتات الفطر، في الانتصاب شيئاً فشيئاً وسط الصمت الضاغط. وارتفعت أصوات متعجبة: - لقد قصفوا محطة البنزين.. - بل وزارة التربية. - كلا، محطة البنزين… إلى اليمين، قريباً من رسول، كان عجوز منبطحاً على بطنه يبحث بعينيه اليائستين عن شيء على الأرض، وهو يدمدم من خلال لحيته: «إلى الجحيم بمحطة بنزينكم، وبوزارتكم…أين هي أسناني؟ يا إلهي، من أين أخرجتَ هذا الجيش من قوم يأجوج ومأجوج؟ أين أسناني…» كان ينقّب نابشاً الأرض تحت بطنه. ثم يقول موجهاً السؤال إلى رسول: «ألم تر طقم أسناني؟». وبينما كان هذا الأخير يرمقه بنظرة مواربة كما لو أنه كان يشك في أنه قد أصيب بمسّ يواصل قائلاً: «لقد سقط من فمي.. وتاه منّي..». - «خلّ عنك يا بابا، في زمن المجاعة والحروب لأي شيء يصلح حقاً طقم الأسنان؟» يسأله رجل ملتح هازئاً وهو ممدد أمامه. - «له ما يصلح له». يرد عليه العجوز بحزم وأنفة، وهو لا يخفي استياءه من تلك الفكرة. - «أي رجل محظوظ أنت..» يجيبه الرجل الملتحي وهو يقف نافضاً الغبار عن ثيابه. ثم يبتعد واضعاً يديه في جيوبه تحت الأنظار المرتابة للعجوز الذي طفق يدمدم بتذمر: «ابن الفاعلة هذا سرق طقم أسناني… أنا متيقن من ذلك». ثم التفت إلى رسول قائلاً: «لقد جهزت طقمي بخمس أسنان ذهبية. خمس أسنان..» وبعد أن ألقى بنظرة سريعة باتجاه الشخص الملتحي، تابع كلامه بصوت يغمره الأسف: «لطالما حثّتني زوجتي على بيع تلك الأسنان الذهبية من أجل أن نصرف على البيت. وأكثر من مرة رهنت طقم أسناني، وما إن يبعث لي ابني ببعض النقود من الخارج حتى أسارع إلى تخليصه من الرهن. وليس أبعد من منتصف هذا النهار فقط استعدته من المرابي. أي يوم ملعون هذا..». ينهض العجوز ويندس وسط الحشد، ربما لأجل تعقّب الشخص الملتحي. كان رسول قد استحسن سخرية الرجل الملتحي، ليس استخفافاً من العجوز صاحب الطقم، ولكن لأنه يكره الأسنان المصنوعة من الذهب التي كان يرى فيها علامة صارخة على البخل في أقبح مظاهره. نانا عالية كذلك كانت تحمل سنين ذهبيتين. كان يودّ لو توفر له الوقت لكي يقوم بانتزاعهما. بلى.. كان يتوفر على ما يكفي من الوقت، ولكن ما كان يفتقر إليه هو المهارة. وإلاّ لما وجد نفسه جالساً هنا في هذا الوضع المثير للشفقة، ممسكاً في قبضته بورقة نقدية من فئة خمسين أفغاني.