"البديل" تنقل أسرار عنابر"المخصوص"ورعب اللحظات الأخيرة إغماء وصرع وحشرجة خوفا من قبضة الحبل المجدول معاناة للأهالي في أروقة المحاكم أملا في تخفيف العقوبة انتقادات دولية للأحكام الأخيرة.. ومطالبات بإلغاء عقوبة الإعدام شعاع النور المتسلل من فتحة الشباك الضيق أعلى الزنزانة التى قضت بها قرابة العامين يمنحها فى كل صباح أملا جديدا, تنجح أحيانا فى القبض على حلمها بإلغاء حكم الإعدام الصادر بحقها شنقاً, وتفشل ولمرات في كبح جماح الخوف الذي يحول لياليها لكابوس خانق, تصحو على وقع صوت أقدام "النوباتجية" السجانة فيمتلئ قلبها رعباً, تنزوى بأحد الأركان, تحتمي بحيطان الزنزانة الواقعة ضمن العنبر الأشهر بين عنابر سجن النساء بالقناطر والذى انتقلت إليه انتظاراً لتنفيذ العقوبة الأشد بين عقوبات قانون الجنايات المصرى "الإعدام". عامان من الموت البطيىء الذى ظلت تعانيه "ابتسام.ع.م" حتى أقرت محكمة النقض فى أكتوبر 2013 قبول الطعن المقيد حسب الأوراق الرسمية برقم 3840، والذى أفاد بإلغاء الحكم وإعادة محاكمتها أمام هيئة قضائية أخرى فى الجناية رقم 19626 "قتل" والمقيدة برقم 161 لسنة 2010. السيدة الريفية ذات الثلاثين عاماً أطلت فى جلبابها الأبيض من بوابة عربة الترحيلات, تجاوزت وآخرون بهو المحكمة وسط حراسة أمنية مشددة, واستقرت بقفص الاتهام, تتابع عن كثب وقائع إحدى جلسات محاكمتها الجديدة والمنعقدة بمقر محكمة جنايات كفر الشيخ, فى صمت تترقب مصيرها الأخير, فيما يظل آخرون يحلمون أن تعتق رقابهم. لا يوجد إحصاء دقيق بأعداد هؤلاء الذين يعانون خلف القضبان آثار أحكام قضائية, غير أن الأرقام التقديرية تفيد صدور قرابة ال1650 حكما بالإعدام فى الفترة من 2007 وحتى 2014 حسب ما هو مثبت فى تقارير منظمة العفو الدولية، ويتطابق والإحصائيات الصادرة عن المركز العربى لاستقلال القضاء والمحاماة, فضلا عن الأحكام الصادرة فى العام 2015 بما لها من وضعية خاصة لكون معظمها صادرة بحق مؤيدين لجماعة الإخوان. أصحاب بعض هذه الأحكام حصلوا -حسب مسؤولين بمحكمة النقض، قسم الإ جراءات الجنائية- على أحكام مخففة إن لم تكن براءات, فيما يظل الآخرون يعانون ضغوطاً نفسية أدت بالبعض منهم إلى الوفاة. الحديث إلى أصحاب البدل الحمراء يستوجب تصريحات تتم وفق إجراءات قانونية معقدة شرعنا فى اتخاذها ولم تنته حتى اللحظة، ليبقى تتبع جلسات النقض وسؤال الأهالى فى زياراتهم سبيلنا الذى كشف عن حجم المعاناة. "بنموت من الخوف والرعب فى اليوم ألف مرة لمجرد فتح باب الزنزانه, وأوقات بيكون الإعدام أرحم"، تروي "ن.ا.م" 32 عاما، إحدى سجينات عنبر الإعدام بسجن القناطر تفاصيل معاناتها "الموت كابوس ومحاوطنا وأخباره بتوصلنا, قصص من جوة أوض الإعدام عن ناس بتتحشرج روحها على حبل المشنقة بالساعات, أو بتعاني من شدة ضغط الحبل المجدول بالسلك، وغيرها من الحكايات تنقلها نوبتجيات السجن لتخويفنا, لدرجة أنه فى حالات كانت بتتعرض لجلطات من شدة الحزن، ده غير الضغط والأزمات القلبية". السيدة التى تؤدى عقوبتها المخففة 15 عاما فى الجناية رقم 26508 والتى التقيناها فى مجمع محاكم الجلاء على ذمة قضايا أخرى تستكمل روايتها "الزنازين القريبة من غرفة الإعدام أصحابها يعانون ضغوطاً أكبر، وأنا شخصيا أصبت بإغماءة بمجرد أن لبست الجلباب الأحمر، وأتذكر أن سجينة دخلت فى شبه غيبوبة، ووقت تنفيذ الحكم جروها للمشنقة جرا", وتؤكد: "اليوم فى عنبر المخصوص بمائة يوم, خوف ورعب وكوابيس لا تنتهي, ومنا من يعين نفسه على الثبات بالصلاة وقراءة القرآن, ومن يترك نفسه للخوف فيقضى عليه قبل أن يصل لغرفة الإعدام". الساعه تشير إلى الثامنة صباحا، ونحن بصحبة أحد أهالى المحكومين بالإعدام أمام بوابة سجن استئناف القاهرة, أعداد كبيرة تستجيب إلى تعليمات أفراد الأمن، الساعات تمر ببطء ينهك البعض فيستند إلى الحائط، تفتح بوابة السجن الجانبية فيدخل الجمع الغفير واحداً يلي الآخر, بعد عمليات تفتيش غير آدمية بالمرة تستهدف التاكد من سلامة تصريح الزيارة وأجساد الزائرين, وأكياس الأطعمة. ربع ساعة لا أكثر يقضيها الأهالى فى الاطمئنان على ذويهم, كلمات قليلة عن الصحة، وكثير من الدموع تذرفها عيون النساء. "م.ج.م" 28 عاما، محكوم عليه بالإعدام يستفسر عن حركة سير التقاضى فى الطعن، ويؤكد "أن أموت بجوار أهلى فى بيتنا أرحم من الانتظار"، وينقل الحديث إلى محاميه -والذى أدخلني بوصفي إحدى المساعدات: "شوفلى حل يا أستاذ، أنا بريء والله" ثم يسأل فى توتر: "أمى مش هتيجي؟ قل لها تيجي جلسة النقض عايز أشوفها" ثم يبكي. الخروج من السجن يتطلب نفس إجراءات التفتيش السابقة، وإن كانت الخطوات تزداد بطئا والعيون تتعلق بوجوه ربما لن تراها بعد. بعض الأهالي يمنعون من الدخول: "نحن نعاني عند الدخول، وأحيانا تلغى الزيارة بعد تحديد موعدها بحجة الإجراءات الأمنية، ونضطر لدفع مقابل للعساكر لمجرد توصيل الأكل لأولادنا"، وتلتقط سيدة مسنة أطراف الحديث: "متنازلين عن حقنا فى الدخول بس يوصلولهم الزيارة بدل ما نرجع بيها تاني، ويطمنونى على ابنى انه عايش". ستون يوما بعد صدور الحكم الأول بالإعدام يبحث فيها الأهالى عن مخرج لأبنائهم وفق ما حددته المادة 46 من قانون حالات وإجراءات الطعن بالنقض: "احنا بندور لولادنا على شهادة ميلاد جديدة"، قالها المسن الذى جاء على التو برفقة أحد المحامين ليتابع سير الطعن المقدم لإلغاء الحكم بالإعدام الصادر بحق ابنه. بكاء وعويل وحالات إغماء رصدناها تتنوع خلالها ردود أفعال المحكوم عليهم بالإعدام, تختلط أصواتهم مع ذويهم المتزاحمين حول قفص الاتهام بإحدى دوائر الجنايات بدار القضاء العالي, والتى تابعنا من خلالها عددا من الجلسات الخاصة بنقض الأحكام, صخب يقطعه دائما صوت حاجب الجلسة بكلمة "محكمة" ليخيم الصمت بعدها. يشخص "علي.ا.ع" برأسه لينصت لقرار القاضي فى طعنه، يتنفس الرجل الأربعينى بعمق، فيما لم ينته القاضي من استكمال منطوق الحكم: "قبول عرض النيابه, وطعن المحكوم عليه شكلا, وإعادة القضية 16810 المقيدة برقم 714 لسنة 2010 كلي شرق طنطا إلى محكمة جنايات المحلة الكبرى للفصل فيها من جديد" أمام بوابة إحدى القاعات التابعة لدوائر الجنايات بمجمع محاكم الجيزة يفترش الأهالى الأرض فى انتظار إذن الدخول، زحام شديد وإغماءات إثر النطق بالحكم فى إحدى قضايا الإتجار بالمخدرات "الإعدام شنقا"، تصرخ "س.ع.ل" زوجة المحكوم عليه: "أنا اللى بتعدم والله، أروح فين بأولادى يا سيادة القاضي"، تكمل السيدة وهى بجوار سيارة الترحيلات فى انتظار ركوب زوجها لنقله إلى حيث لا تعلم: "كتير قلتله بلاش لكن ولاد الحرام". 59 مادة فى القانون المصرى تجيز الإعدام كعقوبة، وهي عقوبة لا تعني فقط -حسب التعريف القانوتى لها- قتل شخص وفق إجراء قضائى بهدف العقاب أو الردع العام والمنع، ولكن تمتد آثار هذا الحكم إلى الأسر التى تفقد عائلها الوحيد غالبا، لتتحول من بعده حياتهم إلى جحيم قاتل: "ولادى اتشردوا"، تحكى السيدة "ع.ح.ن" زوجة أحد المعدومين شنقا، وهي الآن صاحبة "فرش" لبيع المناديل والرفايع: "استلمت جثة زوجى ودفنتها ولم أتلق العزاء حتى الآن، كان عندى هم أكبر وهو سداد ديوني التى أنفقتها على المحامين وفي أروقة المحاكم والسجون من زيارات وإكراميات ومواصلات وغيره". السيدة ذات النقاب، والتى تجلس بأحد ميادين مصر تستجدي بعض الجنيهات لسد جوع أولادها الثلاثة تؤكد: "مفيش حد بيساعد، وولاد الحلال هما اللى عملولى الفرشة دى أسترزق منها بعدما طرقت كل الأبواب وذهبت إلى الشؤون الاجتماعية والتأمينات من أجل صرف أى معاش"، تبكى وهى تقول: "حبل المشنقة الذي التف حول رقبة زوجى في 2011 ملفوف على رقبتي أنا وأولادي الآن، هو مات وارتاح وسابنا نتعذب". الانتقال من السكن للهروب من وصمة العار حل لجأت إليه أسرة "م.م.ا" الذى نفذ فى حقه الحكم بالإعدام فى العام 2004، وتقر "جواهر" أخت المحكوم عليه فى قضية اغتصاب بأن أخاها أخطأ، لكن ما ذنب باقى العائلة لتدفع الثمن نتيجة نظرة الناس"، وتؤكد: "مشهد واحد فى التلفزيون عن تنفيذ حكم الإعدام كفيل بتحويل البيت كله لسرادق عزاء", وتتمتم: "أخي كان صغيرا فى السن، 22 عاما، لم يكن يفهم ما يفعل، وكان يمكن عقابه بشكل آخر غير الإعدام"، وتسأل: "يعنى لما اتعدم حوادث الاغتصاب وقفت؟ ليه مبيلغوش الإعدام؟" شهد العام 2015 تنفيذ آخر حكم بالإعدام بحق 6 متهمين فى قضية عرب شركس، وآخر فى قضية سيدى جابر، سبقه في العام 2014 تنفيذ حكم الإعدام فى 3 من مرتكبي الجرائم الجنائية سرقة واغتصاب، وذلك بعد توقف دام لحوالى 3 سنوات لم تنفذ خلالها العقوبة بحق متهمين. يرى البعض أن العودة إلى تنفيذ أحكام الإعدام أمر غير مبرر، فيماأرجعه آخرون إلى اتجاه الدولة إلى المزيد من الإجراءات الاستثنائية نتيجة ما مرت به من أحداث فى أغلبها سياسية, الأمر الذى كان محل انتقادات دولية واسعة ومنها ما جاء في تقرير البرلمان الأوربى الصادر في يناير 2015 بشأن الأوضاع فى مصر، وتحدث عن أنها أصدرت المزيد من أحكام الإعدام وصلت حسب التقرير لأكثر من 900 حكم خلال العام 2014 أغلبها صدر ضد أعضاء جماعة الإخوان المسلمين, ودعا البرلمان مصر ضمن تقريره لإلغاء أحكام الإعدام التي قال إن مصر وقعتها بدون مراعاة للإجراءات اللازمة، ودون احترام لحقوق المتهمين، كما دعاها لاستبعاد القوانين القمعية وغير الدستورية التي تحد بشدة من حقوق الإنسان الأساسية، وكذلك للتأسيس الفوري لفترة وقف حكم الإعدام كخطوة أولى نحو إلغائه. يوضح المستشار محمد بسيونى، نائب رئيس محكمة النقض، أن الأحكام الصادرة ضد المتهمين غيابيا تهديدية, وهىقابلة للإلغاء أو التعديل أو التأييد فى حالة إعادة الإجراءات إذا تم القبض على المتهم أو سلم نفسه، وأكد أن نصوص القانون الخاصة بعقوبة الإعداممحاطة بضمانات وضوابط تضمن خلو الحكم من الأخطاء، وذكر منها على سبيل المثال المادة 381 والتى تنص على ضرورة إجماع أعضاء محكمة الجنايات على إصدار حكم الإعدام، وضرورة الأخذ برأى المفتى فيها, إضافة إلى المادة 46 من قانون وإجراءات الطعن بالنقض 57 لسنة 59 والتى تضمنت أنه إذا كان الحكم صادرا حضوريا بعقوبة الإعدام يجب على النيابة العامة أن تعرض القضية على محكمة النقض مشفوعة برأيها فى الحكم، وذلك فى الميعاد المقرر وهو 60 يوما. كما لفت إلى دور محكمة النقض بشأن مراقبة عناصر الأحكام الصادرة بالإعدام حضوريا الموضوعية منها والشكلية، بحيث تقضي من تلقاء نفسها بنقض الحكم فى أية حالة من حالات الخطأ فى القانون أو البطلان. كان آخر حكم بالإعدام قد صدر السبت الماضى بحق الرئيس المخلوع محمد مرسي، وآخرين، سبقه الحكم فى فبراير الماضى بحق 183 من واقع 188 متهما فى قضية التعدى على قسم شرطة كرداسة، والذى أسفر عن مقتل 11 وإصابة أمين شرطة، إلى جانب أحكام أخرى منتظرة فى قضايا أحدثت زخما إعلاميا، ليظل إلغاء عقوبة الإعدام محل جدل مع كل حكم جديد يصدر.