يعتبر الجابري أن "مسألة العلمانية في العالم العربي مسألة مزيفة"؛ لأن "الإسلام ليس كنيسة كي نفصله عن الدولة". فالجابري يرى "أن الإسلام دنيا ودين، وأنه أقام دولة منذ زمن الرسول، وأن هذه الدولة توطدت أركانها زمن أبي بكر وعمر، وإذن فالقول بأن الإسلام دين لا دولة هو في نظري قول يتجاهل التاريخ" بالنسبة للجابري، فإن السؤال: هل الإسلام دين ودولة؟ سؤال لم يسبق أن طرح قط في الفكر الإسلامي منذ ظهور الإسلام، وإنما طرح بمضمون لا ينتمي إلى التراث الإسلامي، مضمون نهضوي يجد أصوله وفصوله في النموذج الحضاري الأوروبي". إن تصريح الجابري بمثل هذا الرفض "اللفظي" للعلمانية، هو أمر معروف وثابت في أغلب كتبه. فهو يرفض العلمانية بشكل "لفظي" واضح لا لبس فيه. وربما كان كتابه "في نقد الحاجة إلى الإصلاح" يدور في جله حول إدانة العلمانية باعتبارها "حاجة مزيفة" لا تعبر عن "حاجات العالم العربي"، والتي يختزلها الجابري في الديمقراطية والعقلانية، ويستبعد منها العلمانية. يتصور الجابري إمكانية إحداث فصل بين "الديمقراطية والعقلانية"، وبين "العلمانية". فهو يظن أن الديمقراطية لا تحتاج إلى العلمانية، وكذلك العقلانية لا تحتاج إلى العلمانية. ونفهم سبب هذا التصور لدى الجابري حين نجده يربط بين العلمانية والعلم، في معرض ذمه لها. ولا يتطرق إلى ربط "العالمانية" بالعالم، إلَّا في معرض مديحه "لعالمانية" الإسلام، كما ظهرت في الحديث النبوي: "أنتم أعلم بأمور دنياكم." لذا تشعر أن الجابري يدين العلمانية "لفظيًّا" وبوضوح، لكنه في ذات الوقت، ينادي "بالعالمانية" ضمنيًّا ودون تصريح باسمها، لكن فقط باعتبارها سمة إسلامية ضرورية. فهو بذلك يطلب المعنى، لكنه يخفي الاسم. ولذا يمكننا أن نعتبر أن الجابري يتبنى علمانية "مزيفة"، كما بالعنوان أو أنه يمارس عملية "تزييف لفظي" للعلمانية، حين يرفضها لفظًا، لكنه يطالب بما يتضمنها ضرورة. يقول الجابري: إن السبب الأساسي لرفضه للعلمانية هو أن: عبارة "فصل الدين عن الدولة"، هي عبارة غير مستساغة إطلاقًا في مجتمع إسلامي". وهنا تتبدى "شعبوية" الجابري، كونه يتنازل "لفظًا" عن العلمانية، لكونها "غير مستساغة" في "المجتمع الإسلامي"، وكأنه يسعى حصرًا لملء كتبه بما هو "مستساغ" عند المجتمع الإسلامي، ويستبعد غير المستساغ، حصرًا على مشاعر "المجتمع الإسلامي". فهو يعتبر نفسه "مثقفًا عضويًّا" في المجتمع الإسلامي، وليس من حقه أن يصدم هذا المجتمع بما هو غير مستساغ لديه، بل من الواجب عليه أن يرفض ما هو غير مستساغ لفظًا وبكل وضوح، ليثبت للمجتمع الإسلامي أنه خير من يمثله، ويؤكد الجابري امتثاله للمستساغ في المجتمع الإسلامي بقوله: "من أجل هذا نادينا، منذ الثمانينات، بضرورة استبعاد شعار "العلمانية" من قاموس الفكر العربي وتعويضه بشعاري "الديمقراطية" و"العقلانية"، فهما اللذان يعبران تعبيرًا مطابقًا عن حاجات المجتمع العربي." ويعلل الجابري هذا الاستبدال بقوله: فإنه لا الديمقراطية ولا العقلانية، يعنيان بصورة من الصور استبعاد الدين، كلا." ونظن أن في هذا تزييف يمارسه الجابري لمعنى العالمانية، فالعالمانية لا "تستبعد" الدين، لكنها فقط تستبعد "سلطة" الدين من المجال العام، لا الخاص، لكن مشكلة العالمانية هي أنها "تصرح" بما لا تصرح به الديمقراطية أو العقلانية كونهما يتمتعان بقدر من "الاستساغة"، رغم أن تطبيقهما الصحيح لابد أن يستند إلى العالمانية كأرضية ضرورية. لكن يبدو أن الجابري لا يهتم بكشف فرضياته الضرورية لجمهور القراء إن كانت غير مستساغة. ويفصل الجابري، في كتابه حوار المشرق والمغرب، مع حسن حنفي رؤيته الرافضة للعالمانية، بشكل أوضح. فهو يظهر لنا بمظهر المفكر الحريص على اتخاذ موقف وسطي، حيث "الوسطية" هي ممارسة الرفض اللفظي للعالمانية "غير المستساغة" حتى يريح ضمير القراء، لكن مع القبول الضمني لنتائج العالمانية دون تصريح باسمها، فهو يقبل بالمسمى عمليًّا، لكنه يرفض التسمية لفظيًّا. وربما كان هذا هو نموذج المثقف الوسطي عبر جل تاريخ الإسلام، بدءًا من ابن رشد في محاولة توفيقه بين الشريعة والفلسفة، ومرورًا بمحمد عبده في تلفيقته الرافضة "لفظًا" لأفكار الغربيين "المسلمين بدون إسلام"؛ نتيجة لانتمائه الجسدي إلى "الإسلام بدون مسلمين". فهذا المثقف النموذجي الوسطي يظل مهمومًا بضرورة "استساغة" المجتمع الإسلامي لأفكاره، وخائفًا من "عدم استساغة" المجتمع لأفكاره، وكأن لاعب سيرك قدره أن يسير فوق الحبال دون أن يفقد توازنه، حيث يتحول التفكير إلى مجرد لعبة بهلوانية، يحاول فيها المثقف أن يحصل على استساغة وتصفيق الجمهور، عن مهارته في اللعب على الحبال دون الوصول إلى أي محطة جديدة. لكن عندما نمعن النظر في تحليلات الجابري، سنجدها تحيل إلى العالمانية ضرورة، رغم إدانته اللفظية لها. فلو قيض لنا أن نصف موقف الجابري من العالمانية بشكل دقيق، لقلنا أنه لا يرفض العالمانية حقيقة، لكن فقط يرفض أن يقال بأنه "يقبل العالمانية". ونزعم أن هناك فرقًا شاسعًا بين هذين الموقفين. فالجابري يقول: "إن شكل الدولة في الإسلام ليس من الأمور التي شرع لها الإسلام. إنها من الأمور التي تركها لاجتهاد المسلمين يتصرفون فيها حسب ما تمليه المنفعة والمصلحة وحسب مقاييس كل عصر. وإذن فالقول إن "الإسلام دين علماني" هو في نظري لا يختلف عن القول إن "الإسلام دين غير علماني"، فالعلمانية بمعنى فصل الدين عن الدولة غير ذات موضوع في الإسلام لأنه (ليست) فيه كنيسة حتى تفصل عن الدولة." ونظن أن الجابري في هذا النص يتفق مع علي عبد الرازق في كتابه "الإسلام وأصول الحكم"، لكنه أيضًا يسارع إلى نفي اتفاقه الكامل، من خلال "تقزيم" معيار العالمانية. ونفهم اختلاف الموقف بين الجابري وعلي عبد الرازق، في أن علي عبد الرازق حسم موقفه عند أحد طرفي المعادلة – رفض الخلافة والقول بعلمانية الإسلام. بينما يتبنى الجابري موقفًا ملتبسًا، يصرح لفظًا برفضه "لغير المستساغ" عند علي عبد الرازق، لكن مع تبنيه لأفكار قريبة جدًّا من أفكار علي عبد الرازق. وبذلك نحصل لدى الجابري على علي عبد الرازق "لكن بموقف مستساغ لفظيًّا". يبدو الجابري هنا كصدام حسين، علماني المسلك، متدين الشعارات.