«جيلنا يحقد على التاريخ لأنه لم يعش فيه.. يحقد على الحاضرلإنه لا يؤمن به.. يحقد على المستقبل لإنه لا يستطيع أن يطمئن إليه».. أحد أيام شهر رمضان، والساعة الخامسة مساء، قبل الإفطار بساعة ونصف، وكان راقداً في فراشه بإحدى غرف مستشفى القصر العيني، غرفة خاصة يقف على بابها جنديان من جنود البوليس يحمل كل منهما بندقية، واعتدل فوق الفراش، وبدأ يجمع الصحف اليومية المتناثرة حوله، ويرتبها الواحدة فوق الأخرى، وسقطت عيناه للمرة الألف فوق السطور العريضة الحمراء المنشورة في صدر الصفحة الأولى: "قرار الاتهام في قضية…". ولم يتم قراءة السطر العريض، إنما طوى الجريدة بسرعة كما طوى غيرها، وقام واقفاً واتجه إلى الحنفية المثبتة في جانب من الغرفة وبدأ يغسل وجهه، وأحنى رأسه وترك الماء ينصب فوقها بقوة كأنما يحاول أن يطفئ ناراً تندلع فيها، ثم عاد وهو يدفن وجهه في المنشفة كأنه لا يريد أن يرى هذه النار، لا يريد أن يرى شيئاً، وبدأ يبدل ثيابه، خلع "البيجاما" وارتدى القميص، ثم جلس فوق الفراش وأخذ يلبس حذاءه. ثم دسّ يده تحت "مرتبة" السرير وتسلّل بأصابعه داخل شق صغير فيها وأخذ يتحسّس قطع القطن المندوف حتى اصطدمت أصابعه بشيء صلب صغير، جذبه إليه، ووضعه في كفه وأخذ ينظر إليه برهة في ضوء تشوبه سخرية كأنه ينظر إلى طفل صغير، إنه مسدس "براوننج"، ودسّ المسدس في جيب البنطلون كأنه يخفي ذكرى عزيزة، وقام يسير في غرفته جيئة وذهاباً، ثم ألقى بنفسه فوق المقعد الوحيد، ونظر إلى ساعته وتنهد، وكأنه خشي أن يتنهد مرة ثانية، فجذب إحدى المجلات من جانبه، وألقى بالمجلة على الأرض في عصبية وتمتم بينه وبين نفسه: لن أموت.. لن أمكّنهم مني. "في بيتنا رجل".. قصة احتلت من حيث موضوعها وأسلوبها الروائي مكانتها المتميزة في النفوس. فمسرح زمانها هو ذاك الوقت الذي سبق انفجار أحداث الثورة في مصر، حيث كانت النفوس تغلي من قهر الاحتلال. المكان هو مصر بمساحتها الجغرافية والقاهرة تحديداً، يروي إحسان عبد القدوس بأسلوبه الأدبي الشيق الرائق الرائع قصة محيي الدين البطل الذي سكنت شخصيته في خيال كل مواطن مصري مخلص، يجذب إحسان عبد القدوس القارئ إلى عالم روايته ليجعله متماهياً معها بأحداثها وبشخصياتها وبموضوعها. تستعد سلسلة الأدب العربي للناشئين، التابعة للهيئة المصرية العامة لقصور الثقافة، لإصدار رواية «في بيتنا رجل»، للأديب الراحل إحسان عبد القدوس، بتبسيط نجلاء سلام، وغلاف من تصميم الفنان مصطفى نوبي. في مقدمة الطبعة المبسطة، قالت نجلاء: عن قصة حقيقية، تدور أحداث رواية "في بيتنا رجل"، التي استلهمها إحسان عبد القدوس من استشهاد الفدائي المصري إبراهيم حمدي، المقاوم للاحتلال البريطاني، والذي صار بطلًا شعبيًا، تتردد سيرته على ألسنة الشباب، فأصبح مثلًا أعلى لجيل بأكمله، يلهب الحماس ويحرض على النضال، ضد الاستعمار، إنها رواية الفداء والتضحية، من أجل الحرية التي ننشدها جميعًا. سبق وحكى أحمد ومحمد إحسان عبدالقدوس، نجلا الكاتب الراحل، إن قصة فيلم "في بيتنا رجل"، مستوحاه من قصة حقيقية، حدثت في منزلهم، حين خبأ والدهم حسين توفيق، أحد المتهمين في اغتيال أمين عثمان، وزير المالية الأسبق في العصر الملكي. يقول أحمد: "الراجل اللي قتل أمين عثمان، اللي هو المتهم الأول، حسين توفيق، هرب، وجه استخبى عندنا، وعرضوا وقتها 5 آلاف جنيه، يعني دلوقتي 5 مليون، لمن يرشد عنه، طلبوا من الوالد قالوا له احنا مش عارفين نخبيه فين، أنت متجوز وعندك أطفال ما تاخده تخبيه، فوافق، ولقيته داخل الساعة 2 الصبح ومعاه حسين توفيق اللي البلد كلها بتدور عليه". كما سبق وكتب إحسان عبد القدوس مقالا بعنوان "بينى وبين حسين توفيق"، فى مجلة الاثنين والدنيا، عدد يولية 1948، وفيه يكشف عن إعجابه بحسين حيث كتب: "إن العلاقة بينى وبين حسين توفيق هى أغرب علاقة قامت بين كاتب وقارئ، فمنذ أن أطلق حسين توفيق النار على أمين عثمان، وأنا أحس كلما أمسكت قلمى لأكتب مقالا أنى أكتب له، وأن صورته تلاحق كلماتى وتسألنى معانيها وما أقصده من ورائها، كان حسين يبادلنى نفس الشعور، ويعتبر مقالاتى خطابات شخصية له، وكان يجد أن من حقه أن ينتقدنى فيما أكتب ويناقشنى فيه ويغضب منى ويغضب لى، ولكن حسين توفيق لم يكن يمثل أمامى شخصه فقط، بل كان يمثل جيلا كاملا أنتمى إليه، ويعانى مثل ما أعانيه من حيرة وكبت. جيلا يحقد على التاريخ لأنه لم يعش فيه، ويحقد على الحاضرلإنه لا يؤمن به، ويحقد على المستقبل لإنه لا يستطيع أن يطمئن إليه، جيلا ينظر إلى زعماء بلده فلا يجد خيطا واحدا يصل بينه وبينهم، أو بينه وبين واحد منهم، ويحاول أن يسمع فى أقوالهم أو يرى فى أعمالهم صدى لآرائه وترجمة لعاطفته فلا يسمع ولا يرى شيئا يقربه إليهم".