حتى الآن أعُلن عن افتتاح هذا المشروع مرتان، في كل مرة يتم تأجيل الموعد لأسباب مبهمة، الأمر الذي دفعنا للتساؤل: هل حقًا هذا مشروع ثقافي حقيقي يخدم الفقراء والبسطاء في قرى مصر أم أنه مجرد حبر على ورق كغيره من مشاريع الوزارة؟ توجهنا إلى الفنان التشكيلي ياسر جاد- رئيس المشروع وصاحب الفكرة، الذي كشف لنا ما وراء الستار، والعقبات التي يواجها المشروع والحال الذي وصل إليه الآن. نتتبع مسار مشروع المتحف الجوال ونبدأ مع أولى أيام تولي الدكتور أحمد عبد الغني- رئيس قطاع الفنون التشكيلية السابق، إذ شهدت هذه الأيام اجتماعات بين «عبد الغني» و«جاد» لبحث ومناقشة إطلاق مشروع فني جوال يطوف مدينة القاهرة، وأثناء هذه المناقشات لاحت فكرة في الأفق «لماذا لا يكون هذا المشروع قومي يطوف المحافظات ويحقق العدالة المعرفية والثقافية لكل المصريين بعد حالة العزلة والقطيعة التي حدثت بين المدينة والقرية خلال العقود الثلاثة الماضية؟». من هنا بدأ مسار المشروع يتحول تدريجيًا ليشمل كل محافظات مصر لا العاصمة وحدها، فعكف «جاد» على كتابة تصور وخطة لهذا المشروع، الأمر الذي عبر عنه بقوله: يستهدف مشروع المتحف الجوال الطبقة العاملة المرهقة اقتصاديًا وفكريًا وهى من الطبقات التي حرمتها ظروف معيشتها من مجرد التفكير في الحصول على مثل هذه الخدمات بل ويعتبرها معظمهم إنها رفاهية، وينظرون إلى مجتمع الفن والثقافة على أنهم طبقة لا تشعر بهم، فهذه الفئة من الفئات المستهدفة ويجب الوصول إليها لإذابة ما بينها وبين الثقافة والفنون من طبقات جليد تراكمت وتكونت وازدادت سمكًا لظروف معيشية وتعليمية تشابكت معًا، لترفع جدار بينها وبين أية محاولة للتنوير الحقيقي». وبناء على خطة «جاد» ينقسم مشروع المتحف الجوال إلى محاور ثلاثة؛ الأول «القاعة المتحركة» خاصة بالعروض التشكيلية، وهى منفصلة يتم تجميعها لتكوين الشكل المناسب للقاعة حسب مكان العرض، كما يمكن استخدامها لعمل قاعة ندوات أو محاضرات أو عروض فليمية أو وثائقية حسب نوع النشاط، المحور الثاني «النشاط الثقافي» وما يشمله من خطط تثقيفية ترتكز على سياسات ثقافية وفنية محددة وموجهة، تتسم بطابع الوسطية وعدم المغالاة لجذب أكبر عدد من الجمهور ومراعاة الجوانب الاجتماعية والدينية للمجتمع المصري، فلابد أن يتسم النشاط في كل فعالياته باحترام العادات والتقاليد وبث أفكار التنوير بأسلوب ممنهج ومتناسب مع عادات وتقاليد كل إقليم من أقاليم القطر المصري. أما المحور الثالث؛ فقد شمل ورش العمل المصاحبة ووضع تصور ممنهج وخطة محكمة لإقامة ورش عمل جاذبة للعديد من الشرائح المجتمعية والفئات العمرية بداية من ورش العمل الخاصة بالأطفال والصبية مرورًا بالشباب وخاصة الطبقة التي تعاني من مشكلات بطالة، والعمل على طرح ورش عمل ذات طابع تعليمي لبعض الفنون والحرف ذات العلاقة بالناحية التطبيقية. بجانب هذه الأهداف المعرفية والتثقيفية، هناك أيضًا جانب ترويجي سياحي للمشروع، متمثل في وجود قاعة فنية متحركة بالمطار وأخرى بقطار الصعيد السياحي، وبذلك يكون لدينا وسيلة جذب سياحية ومعرفية للوافدين لزيارة مصر والتعرف عليها بأبسط التكاليف، إلى هنا تبدو الأمور رائعة، أين المشكلة أذن؟ عقبات المشروع ومفاجآته يرويها لنا «جاد» قائلًا: بدأت المشاكل مع الشائعات التي روجتها بعض القيادات بوزارة الثقافة بأن المشروع حبرًا على ورق، وليس له وجود في الواقع، ما أصاب القائمين على المشروع بحالة من الإحباط، لكننا تداركنا الأمر، ولم نعبأ بهم واستمر عملنا، حتى وجدنا العائقة الكبرى «الميزانية» فوفقًا أن هذا المشروع قومي، على كافة الوزارات المعنية أن تدعمه ماليًا، وبناء عليه خاطبنا وزارة السياحة التي تعهدت بدفع مبلغ 750 ألف جنية، وبالفعل تم صرف 550000 ذهبا لصالح إدارة المستنسخات بالقطاع، وحتى الآن لم يُصرف مبلغ ال200 ألف الخاص بمشروع المتحف الجوال، أي أصبحنا الآن نتحدث عن مشروع دون ميزانية. «دفعنا من جيبنا ما يقرب من 15000 جنية حتى الآن، فقط إيمانًا منا بالفكرة ورغبة في تنفيذها، وبدأنا في تنفيذ أولى خطوات المشروع وقمنا بتصميم عربة ناقلة وزودنها بأحدث المعدات التقنية واللواحات الفنية استعدادًا لانطلاق المشروع من جامعة القاهرة، لنفاجأ مرتين، بالتأجيل لأسباب وهمية وأخرى أمنية، فالجامعة غير قادرة على تأمين المشروع، وكثير من مثل هذه التعقيدات». تابع جاد:لم نتوقف عند وزارة السياحة، وتقدمنا إلى القوات المسلحة لعرض المشروع، وحتى الآن لم يصل لنا أي رد، ففكرنا بأسلوب مختلف بعيدًا عن الوزارات وهو النزول للشارع مباشرة والتنقل بالقاعة المتحركة، فقصدنا محطة مصر برمسيس باعتبارها مكان يتجتمع فيه المصريون القادمون من شتى المحافظات، لكن واجهتنا أيضًا صعوبات وتشديدات أمنية، وقال لي الضابط صراحة "ما اقدرش أحميك، حاليًا يعقد المؤتمر الاقتصادي في شرم الشيخ عندما ينتهي سنبحث في الأمر"، فذهبت إلى مدير المحطة مرة أخرى بعد 20 يوم من انتهاء المؤتمر لكن لا تزال هناك مماطلة وشعرت أني "أشحذ منهم"، حتى قمت بمداخلة تليفزيونية على إثرها هاتفتني مديرة العلاقات العامة بالمحطة لإقامة العرض، لكن حتى الآن لم نتوصل إلى أي اتفاق. «مشروع أشغال شاقة»، هكذا وصف «جاد» مشروع المتحف الجوال، قائلًا: هذا مشروع بلا ميزانية، تقوم فيه مجموعة من الأفراد بكل شئ، حتى لم يتوفر لنا عمال لمساعداتنا فلكم أن تتخيلوا، دكتور جامعة يقوم برفع المعدات ونقلها، هل أخذ الدكتوراه ليقوم بهذا العمل؟، للأسف وزارة الثقافة لم تدعمنا هي وغيرها من الوزارت الأخرى، مثلًا وزارة كوزارة السياحة عندما تقوم بتصوير إعلان تلفيزيوني تستدعي فيه فنانين سينما مدته دقيقة ونصف وتصرف عليه 40 مليون جنية، وما يلبث أن يعرض على الشاشات لمدة شهر ثم يُنسى، في المقابل نحن من نملك مشروعًا قوميًا ك"المتحف الجوال" سيحقق أهداف مرجوه أفضل للترويج السياحي، نعامل بهذا الأسلوب السئ. في ظل هذه المعارك التي يخوضها مجموعة من الفنانين التشكيلين، ارتفع صوت بعض القيادات بالوزارة مرة ثانية، يرددون أن هذا المشروع "وهم" لا أساس له، وحتى يدحض القائمون على المشروع هذه الاداعاءات، قاموا بعرض القاعة المتحركة بساحة متحف محمود خليل ودعوا الدكتور عبد الواحد النبوي- وزير الثقافة، حتى يرى بنفسه أن هناك مشروعًا حقيقيًا ويحتاج إلى دعم، بالفعل ذهب الوزير وقابل القائمين على المشروع ووعدهم بصرف المبلع 200 ألف جنية من وزارة السياحة خلال الفترة القادمة. إلى هنا يقف المشروع على أمل في وعد «النبوي» بصرف المبلغ، وأملًا في مؤتمر المستثمرات العرب المقرر انعقاده هذا الأسبوع بمدينة شرم الشيخ، إذ اتفق القائمون على المشروع بطرحه خلال هذا المؤتمر علهم يجدون من يموله، أيضًا اتفقوا أن في حالة عدم صرف ميزانية «السياحة» كما وعدهم «النبوي» سوف يتركون المشروع ويتجهون لأي مؤسسة مستقلة ترحب بفكرة المشروع. ختامًا نحن الآن أمام وزارات لا تمول، وأشخاص يدفعون من أموالهم الخاصة، فقط لإيمانهم بمشروع يأملون فيه أن يمنح البسطاء حقهم المعرفي، هنا أين صفة القومية في مشروع يعافر فيه مجموعة من الأشخاص بعيدًا عن أي دعم حكومي؟