لم تعد بعض النساء في عصرنا الحالي تلك الأنثى الضعيفة، فبالرغم من ان طبيعتها التي خلقها الله تعالى عليها جعلتها أقل تحملاً لبعض الأعمال المعتمدة على الجهد البدني مقارنة بالرجل، إلا أن صعوبة العيش وحب الكسب الحلال جعلهن يخوضن التجربة وينافسن الذكور، بل ويتفوقن عليهم أيضًا في بعض الأحيان. رانيا رشاد هلال، سيدة تبلغ من العمر 25 عامًا، بدأت عملها في الثامنة عشر كعاملة في منازل بعض الأسر، ثم تحولت إلى تنظيف درج العقارات، ثم في أعمال المحارة وحفر الكهرباء في العقارات الحديثة، وتركيب السيراميك لمدة عام كامل، ثم طاهية في عدد من المطاعم الشهيرة بالإسكندرية، ثم بالجزارة وانتهاءًا بمحل أسماك بحي بحري بالإسكندرية. قالت هلال ل" البديل" ان بداية عملها في محل الجزارة لم تكن تتعدى حدود مطبخه، فكانت تعمل كزميلاتها في تقطيع البصل، ولأنه عملاً يسيرًا ونظرًا لحاجتها إلى دخل أكبر ولمرض زوجها الذي أقعده الفراش، قررت أن تقترح على صاحب المحل نقلها إلى عمل آخر أكثر مشقة لتقف بجوار الرجال جنبًا إلى جنب وتبدأ في عملها الجديد بذبح الماشية وسلخها. مواقف مهينة تعرضت لها هلال جراء عملها في مجال الجزارة، فتقول أن البعض من عديمي الأخلاق عرضوا عليها ترك المهنة "واللي انت عايزاه خديه بدل المرمطة" وذلك مقابل مرافقته إلى محل سكنه كل ليلة. وضعت هلال برنامجًا تسير عليه بانتظام، ليبدأ يومها بعد الاستيقاظ في الخامسة فجرًا، بغسيل ملابس أسرتها وتنظيف المنزل، ثم طهو الغذاء لأبنائها قبل المغادرة في الثامنة صباحًا ثم تعود إلى المنزل في السابعة مساءًا تتشوق لساعات النوم وقد غلبها الجهد والإرهاق. عاشت هلال حياة قاسية منذ الصغر، فتقول:" عمري ما نمت في حضن أمي وماشوفتش حنية من ابويا" انفصل الوالدان وتزوج كل منهما من آخر، وولد لديها شعور بالوحدة جعلها تتجه من محل سكنها بالقاهرة إلى الإسكندرية لتبدأ رحلة جديدة مع معاناة من نوع آخر بدأت من 10 سنوات إلى وقتنا هذا. ليس هناك أصعب من أن تشتهي شئ أنت بالفعل تقوم بتسليمه بيديك لشخص آخر دون أن تتمكن من نيل قسط منها، فهلال وإبنيها لا يستطيعون شراء اللحوم التي تبيعها نظرًا لارتفاع أسعارها، فكانت الطريقة المثلى للتغلب على شهوتهم هذه هي رفض العائد المادي المقابل لعملها مقابل قطعة لحم "أنا عايزة حتة لحمة لعيالي بدل الفلوس" مضيفة:"اللحمة باكلها من العيد للعيد، والمجمدة مالهاش طعم ولا ريحة، الحمدلله". أثار نجاح هلال في عملها كجزارة غيرة زميلاتها اللاتي يعملن في مطبخ محل الجزارة، خاصة عند دفع أصحاب الأضاحي لها أموال إضافية تشجيعًا لها ولمجهودها المبذول وهو ما دفعها إلى ترك المهنة مؤقتًا والعمل بها فقط في أيام عيد الأضحى المبارك، فقالت:" كل شوية بنتخانق مع الحريم اللي بيقشروا بصل في المحل، بيبصوا على رزقي" وتحولت منذ ثلاثة أشهر للعمل لدى محل لبيع الأسماك في أحد أسواق المدينة. "اللي بشوفه خلاني أخاف من الناس، أول مرة أكره الشغل، نفسي أقعد في بيتي وانام كويس" عملها في مهنة كثيرة الحركة وارتدائها بنطالاً أثناء العمل جعل المارة ينظرون إليها بنظرات متفاوتة، كانت بعضها سئ وبعضها الآخر اعتبرها مثارًا للشفقة- على حد قولها. تقول هلال ان زميلاً لها صفعها واعتدى عليها بالضرب، فضلاً عن المشاجرات والمشاحنات مع زميلاتها نتيجة الغيرة في العمل، وهو ما اضطرها إلى ترك العمل في مهنة الجزارة والتحول إلى بيع الأسماك. "حاسة اني عندي 50 سنة.. وحتى لو لبست وعملت ناس ياما بتطمع في البني آدمة" كلمات ممزوجة بالحزن قالتها رانيا هلال بنت ال 25 عامًا انتقدت خلالها النظرة المجتمعية السلبية للمرأة العاملة، وكذلك عدم شعورها بأنها كغيرها من الفتيات اللاتي في نفس عمرها. تحصل هلال على 80 جنيهًا معاش زوجها الذي عمل فران لسنوات، حالها جعل صاحب البيت يرأف بها ويوقع لها عقد تمليك لسطح العقار، تبني عليه مسكن تعيش فيه وأسرتها الصغيرة، إلا أن جيرانها نبذوها خوفًا على العقار المكون من 13 طابق من الانهيار إثر بناء غرفة وصالة من الأخشاب هي كل حلمها، فظلت تعاني من غلاء إيجار الوحدة التي تسكنها حاليًا. لم تكن الجزارة من وجهة نظرها أسوء المهن التي امتهنتها، ولكن كان أصعبها عند هلال "شغل البيوت" وتحلم بأن يكون لها مشروعها الخاص ومسكن وتعليم جيد لولديها. تعاني هلال من مرض حساسية الصدر وتحتاج إلى إجراء عملية بتكلفة 12 ألف جنيه لا تستطيع تدبيرهم مع كثرة التزاماتها من بخاخ ومصاريف الدروس الخصوصية، فضلاً عن نفقات علاج زوجها وما يحتاجه المنزل من مصروفات. تصطحب هلال، نجلها محمد ذو السنوات السبع إلى محل الجزارة طوال أيام عيد الأضحى ليتعلم منها المهنة التي أحبها لدرجة جعلته يفضلها على دراسته، ولكنها لم ترغب في توريث المعاناة لأبنيها فحرصت على استكمال دراستهما لتصبح نورهان التي تدرس بالصف الرابع الابتدائي طبيبة وكذلك محمد الذي يصغرها بعامين. لم تكن أسرة هلال حريصة على تعليمها، إلا أنها استطاعت أن ترفع من مستوى أبنائها التعليمي، بتقليد أشكال الحروف واختبارهن في بعض الموضوعات شفهيًا مع اعتقادهم بقدرتها على القراءة والكتابة خلافًا للحقيقة.