حالة تدفعنا لطرح أسئلة جديدة حول دور الخامة وقد تخطت وظيفتها التى نعرفها فى الحياة واعتدنا رؤيتها فيه مجموعة متميزة من الأعمال النحتية، تتناول مفاهيم إنسانية واجتماعية وبيئية، فى تشكيلات معاصرة، بأسلوب يتسم بالتجريدية التعبيرية، والجرأة فى الطرح. هذا ما تعلنه خامة «الخردة» فى أعمال النحات السكندرى هانى السيد، التى تعيد اكتشاف أدوار جديدة لتلك الخامات المهملة، وتعيد توظيفها بدلالات متفردة، تناغمت فيها نظريات الكتلة والفراغ، وعكست بوضوح قدرة الفنان ومثابرته. فتحت قاعة الباب أبوابها ل«نحت المعنى»، المعرض الجديد للفنان، الذى ضم أكثر من 30 عملًا نحتيًا من أعماله المتفردة، من بينها «علاقات حادة، امرأة، السيرك، مركب الشمس، أمومة، العائلة، المحاربين، السباق، طفولة، هروب، طاقة، نملة، إيقاع، آله الحرب»، ويسدل قطاع الفنون التشكيلية الستار عليها غدا. قرأ عدد من رموز الفن التشكيلى المعرض، بعين الناقد والمتابع للحركة الفنية المصرية، قال الدكتور أحمد عبدالغنى، لرئيس القطاع، عن منحوتات الفنان: «يعد النحات هانى السيد أحد الأمثلة المهمة على هذا الحراك الذى يحدث فى جميع المجالات الفنية، إلا أنه يتجلى فى فن النحت، هذا الفن الذى يوازى عمره تاريخ الإنسانية ذاتها، لأن الخروج عن مفاهيم وطقوس وعلوم توارثتها البشرية آلاف السنين ليس بالأمر الهين، لهذا فحدوثها يصاحبه صدى أوسع، وقد برز اسمه مؤخرًا كأحد المثالين المهمين بعد أن شق طريقه بجدارة وثقة فى قدراته وموهبته، ساهم فى ذلك حصوله فى بداية مشواره على جائزة صالون الشباب ال11، وما تلاها من خطوات واثقة واعية. وتتميز منحوتاته بتجريديتها وديناميكيتها، خلال توظيفه لخامات ومعادن مهملة، باعتبارها خردة، إلى أن حورتها وشكلتها أنامله ورؤيته مجسمات بواحة بمعادن ودلالات وإيحاءات فى جمل جمالية وإبداعية متفردة، تتميز بالجرأة والمجازفة لتحقيق قناعاته وفلسفته، التى تتناغم مع هذا التوازن بين الكتلة والفراغ. فى أعماله الجديدة يطرح الفنان موضوعات مجتمعية وقضايا شديدة الصلة بالواقع، والمعايشة الواقعية، فى حوار ثلاثى الأبعاد للخامة والحيز وجماليات التشكيل، استمرارًا لتجربة الفنان مع خامة الخردة، ونهجه التجريدى فى التعبير عن رؤاه وأفكاره. الفنان التشكيلى عصمت داوستاشى، قدم كذلك شهادته عن المعرض، قائلًا: «يواصل هذا الفنان الشاب تجديداته فى أشكال منحوتاته التجريدية، بالخامات المختلفة، ما بين الحديد شديد الصلابة والألمونيوم بلمعانه وطراوته، التى تفرض بالضرورة معالجات ناعمة ودائرية، فى أشكال تماثيله، وهانى السيد من المثالين المجددين، يعرف بنشاطه وحيويته الإبداعية ومعارضه المستمرة بخاماته الصعبة، التى تلين وتتشكل بين أصابعه، فى تقنيات بارعة، يواكب بها سرعة التطورات الحديثة فى الشكل ومضامين ومفاهيم الإبداع الفنى المعاصر، وفى تماثيله الحديدية الجديدة يتباهى اللون الأسود ويتألق». لم تتغير رؤية الفنان حسام الدين زكريا، لمنحوتات الفنان منذ 2012، وهو من قال عن الفنان: «إذا ما رأيت النحات الطليعى هانى السيد، وهو يذيب أطراف مشغولاته المعدنية، مستخدمًا لهب الأكسى أسيتلين، فاعلم أنه قد ارتأى فيها «كينستاتية» تدفعها للحياة من جديد، إلا أنها قد انبعثت فى ثوب جديد لتقول لنا أشياء جديدة تمامًا، وتشكل لنا وعيًا متوثبًا تجاه الخامات المعدنية، المهمل منها، والذى لا يلفت انتباهنا فى الغالب، فى حالته الرثة، قبل أن تتناوله عين الفنان الثاقبة، وربما يثير انتباهنا من قبل بوظيفته الحساسة كعضو أساسى فى موتور عربة على سبيل المثال، فهنا يتعامل هانى مع المستوى الجمالى للخامة وربما الميتافيزيقى أيضًا، وهو مستوى يتخطى مستواها النفعى، ويدفعنا لطرح أسئلة جديدة حول دور الخامة، وقد تخطت وظيفتها التى نعرفها فى الحياة، واعتدنا رؤيتها فيه. كيف توقظ الخامة فينا أحاسيس لم نعهدها من قبل ونحن نتأمل تلك التراكيب من المهمل والنفايات والخردة بعد إعادة توظيفها؟ إنه تحويل العادى المألوف إلى منظر غير مألوف والأعضاء المتناثرة إلى كل واحد يدفعنا إلى التفكير بجدية فى ماهية الفن، وهنا تكمن صدمة التلقى، فالمشاهد لن يتخلى بسهولة عما رسمه فى خياله لدور الخامة أو الأداة المهملة التى أعاد الفنان توظيفها فيه، سيقوده حدسه بالطبع – مع ما لديه من خبرات سابقة عن الخامة خاصة إذا ما كان ممن أوتوا حظًا من معرفة بالصناعة والتكنولوجيا – إلى آفاق يشتعل فيها خياله، حيث يبدأ فى التحول من سلبية التلقى إلى تجاوب حسى وعضلى وعصبى إيجابى مع العمل النحتى، وذلك هو ما يطلق عليه «كينستاتية» العمل الفنى، انطلاقًا من قول كورت كوفكا «الكل مستقل (وأعظم من) عن مجموع الأجزاء»، وهذا ما يريد هانى السيد أن يطرحه أمامنا فى تركيباته، كيف نتخطى حاجز الإدراك البصرى، سعيًا لآفاق أكثر رحابة على ساحة الإبداع الفنى. هنا تتضح الرؤية، فلنعد ترتيب أشيائنا/ كياناتنا/ هوياتنا من جديد، فقد يكون الأمل ما زال موجودًا فى لم شملنا المبعثر بعشوائية، بمفاهيم وأولويات جديدة تمامًا، وهذا هو الدور الاجتماعى المثير الذى يلعبه الفنان، فإذا كان جوهر الفن هو إيجاد صلة بين البشر، فلا مناص من رؤية جديدة لموجودات الكون، تعمل على تعميق مفهومنا عن الإبداع التقنى الفنى، فى آن واحد، حيث لا يكون الخيال مجرد تلك المخاطرة غير المحسوبة عند الاصطدام بالواقع، بل يأتى الخيال عندما يتعذر التمييز بين الواقع واللا واقع. وتتعدد الإيحاءات التى يطرحها هانى السيد فى الصيغ التجميعية، المؤتلفة لعناصره ومفرداته وتباينات الملامس لأسطح مشغولاته، وفهمه للتلاعب الواعى بالضوء والظل، لقد كانت كل تلك النفايات منذ وقت ليس بالبعيد متناثرة لا يجمعها أى قانون أو مفهوم مرئى، إلا أنها تنضم فى النهاية بفضل رؤيتها من جديد، لمتأمل حاد البصيرة، فى عقلية تجميعية فطرية للفنان، وفى إحساس متوحد بالكليات، وكأنها تقول الكل فى واحد، وهذا الواحد لا يراه إلا كل من أراد التغلغل واختراق الأعماق، حقًا ما أردت أن تدرك اللامرئى فعليك أن تتغلغل فى الأعماق وتخترقها، بحثًا عما هو مرئى، نحو نحت تدب فيه الحياة». أما الدكتور عبدالرازق محمد السيد، أستاذ النحت بكلية الفنون- جامعة الإسكندرية، فيقول: «هانى السيد واحد من الفنانين الجادين، الذين استطاعوا من خلال إبداعاتهم الفنية المتعددة والمتنوعة، أن يحددوا لأنفسهم مكانًا متميزًا، وسط كوكبة الفنانين المعاصرين، والمتأمل لأعمال النحت لهذا الفنان، يجدها مفعمة بالحيوية ومتنوعة ومبتكرة، بالإضافة إلى أنها تعكس بوضوح مثابرته ومعاناته وفهمه العميق للتشكيل المجسم، وما يتطلبه من فكر وإبداع وتقنية ومهارة، لذلك لم تستوقفه تلك المعالجات السطحية المفرغة من المضامين الإنسانية، ولم يتحفز لاستخدام الخامات الهشة التى لا تتطلب أدنى معاناة عند تشكيلها، إنما سعى فى أعماله الفنية إلى تحقيق التوازن الفريد ما بين الأفكار الجادة المبدعة، والخامات المناسبة لما فيه إيقاعًا تقنيًا مثيرًا، متنقلًا من فكرة إلى فكرة ومن خامة صلدة إلى أخرى أكثر صلادة، فى سلاسة ورقة بدون افتعال».