تمر في هذه الأيام علينا ذكرى بداية الغزو الأمريكي للعراق واسقاط نظام صدام حسين ، ولأن آفة شعوبنا النسيان وآفة أنظمتنا الخداع تأتي الذكرى في كل عام لتعيد لذاكرة الأمة نشاطها وتهدم ما كان يخطط له لخداع الشعوب وتضليلها .. وكأن ترتيب القدر لم يكن مصادفة حين أصبح اخر مارس من كل عام هو موعد انعقاد القمة العربية ليكون دائما مرافقا لهذه الذكرى .. لكي نتذكر جميعا في مارس من كل عام ونحن نشاهد المائدة المستديرة الكبيرة ونستمع لكلمات الحكام العرب كيف تم بيع العراق على هذه المائدة رخيصا سهلا ، ونستفيق من أي أحلام يحدثوننا عنها محاولين خداعنا .. تبدأ حكاية العراق قبل العام 2003 بكثير بل أقدم حتى من العام 1990 وغزو صدام للكويت ، تبدأ الحكاية حقيقة منذ العام 1979 ، هذا العام الذي شهد 3 أحداث رئيسية كبرى غيرت خريطة الشرق الأوسط السياسية لعقود تالية ، كأن أولها هو اتفاقية السلام النهائية بين مصر والكيان والصهيوني والتي كانت بمثابة إعلان لوفاة المقاومة المصرية والدور المصري في المنطقة وانتصارا كبيرا عظيما لأمريكا في المنطقة لدفعها دفعا نحو الدوران في فلك النظام العالمي الجديد الذي تؤسس له ، ولكن جاء الحدث الثاني على غير رغبة امريكا فبعد ان انتصرت بضم مصر لمعسكرها فقدت إيران في نفس العام بعد الإطاحة بالشاه رجل امريكا القوي في المنطقة وشرطيها وحارس مصالحها وصعود دولة ولاية الفقيه التي تبنت خط مواجهة أمريكا الذي كانت تحمله مصر "عبد الناصر" على عاتقها من قبل .. في يوليو من نفس هذا العام أيضا كان الحدث الثالث ، حيث استطاع صدام حسين نائب الرئيس العراقي أحمد حسن البكر الإستيلاء على السلطة عبر انقلاب أبيض وإعلان نفسه رئيسا للجمهورية العراقية وفورا أعلن الحرب على إيران بدعم خليجي مباشر وامريكي مستتر. سخرت دول الخليج كل إمكانياتها لدعم صدام وأصبح هو زعيم الأمة العربية الذي يدافع من أجل استعادة أمجادها وقوتها ، تدفقت أموال النفط الخليجي "السعودي والكويتي" خصوصا لمساندة صدام في حربه – التي كان الغرض الحقيقي منها هو اسقاط دولة ولاية الفقيه الإيرانية – وتم استدعاء الطائفية والعنصرية العرقية للحشد ولا ننسى وقتها انتاج الفيلم الشهير "القادسية" بطولة سعاد حسني الذي أكد للجمهور العربي أن العراق يعيد قتح فارس من جديد وان صدام هو صلاح الدين الجديد وانه سعد بن ابي وقاص الأمة وأنه يواجه "الفرس المجوس" دفاعا عن العروبة والإسلام ! ورغم أن العلاقات المصرية العربية وقتها كانت فاترة بسبب موقف السادات من السلام إلا أن مصر ايضا لم تتردد في دعم هذه الحرب إعلاميا وسياسيا .. كانت هذه هي البداية .. "جنرال" عراقي يتم دعمه لكي يصل للحكم بانقلاب ليصبح هو المخلص للعروبة من "الخطر الإيراني" ، ولا مانع من الحديث قليلا عن "إسرائيل" لدغدغة مشاعر العامة ولكن دون تشكيل أي تهديد لها فعليا طوال عهده . ولكن الحرب لم تحقق أهدافها، بعد 8 سنوات عجاف لم يحقق العراق انتصارا جذريا ينهي حالة الحرب، وازداد نظام الخميني في ايران رسوخا وبدأ الخليج يشعر بالإنهاك من تبعات الحرب والدعم الذي يلتزم بتقديمه للعراق، فما كان إلا أن اتجه صدام بجيشه لإحتلال الكويت – تحت نفس المسمى الخاص بتوحيد العرب وصلاح الدين الجديد – فانقلب السحر على الساحر ، وما كان لحظتها إلا أن قرر الخليج تدمير صنيعته والتكتل والتكاتف لإنهاء صدام الذي تحول لخطر يهدد عروشهم وأمنهم . فهذه عادة الخليج حتى يومنا يلعب بالنار حتى يحرق نفسه وما يحدث في سوريا اليوم من صنع أيدي الخليج هو تكرار لنفس الأحداث .. فها هي داعش تتحول اليوم لخطر يهددهم ويؤرق مضاجعهم .. وظل الحصار العالمي مفروض على العراق بمباركة خليجية وموافقة عربية، حتى قررت أمريكا في العام 2003 انهاء نظام صدام نهائيا والعجيب وقتها أن إيران وحزب الله "الشيعي" أعلنا رفضهما بوضوح لدخول الأمريكيين للعراق ! واصدر حزب الله وقتها بيانا يطالب العراقيين بالتصدي للأمريكان ، حتى أن شيعة العراق وقتها أعلنوا سخطهم على حزب الله وأهانوا حسن نصر الله لأنه يطالبهم بمساندة صدام الذي عانوا تحت حكمه طويلا والذي حارب إيران 8 سنوات ..أما من جهة أخرى غضت الدول العربية طرفها وسمحت لأمريكا بالإنطلاق من أراضيها وسمواتها وبحارها لتدمير العراق .. لم يكتف النظام العربي بذلك وحسب بل قدم كل الدعم لتأسيس الدولة الطائفية في العراق وساند المحاصصة الطائفية والتقسيمات الفيدرالية على اساس مذهبي وعرقي وسعى من جديد لعمل عراق يتماشى مع مصالحه .. ولكن من جديد ينقلب السحر على الساحر، فالنظام العربي الذي وافق أن يكون العراق طائفيا اكتشف أن الأغلبية الشيعية في العراق بدأت تسيطر على الوضع، ورغم أنه قبل باوراق هذه اللعبة مسبقا ولكنه بدأ يتذمر من جديد، فقد قرر النظام العربي مسبقا أنه "سني" الهوية لا مكان لا لشيعة ولا لمسيحيين ولا لغيرهم فيه و"سني" بمفهوم السعودية ايضا وليس أي "سني".. بدأت القصة مرة أخرى من جديد ، توغل الدواعش في العراق وبدأوا ينطلقون من سوريا "المدمرة" بدعوات تطهير طائفي وتعصب مذهبي لذبح المدنيين وقتل الناس ، وقتها توجه العراق للنظام العربي الرسمي لكي يسانده ويدعمه في حربه على الإرهاب، فلم يسانده ولم يقدم النظام العربي للعراق أي دعم مادي أو معنوي، وقتها أيضا طلبت الحكومة العراقية من الأمريكان الدعم وتسليح الجيش فتماطلت أمريكا كعادتها وظل الوضع يزداد سوءا حتى كان الدواعش على بعد كيلو مترات من بغداد .. ظن حينها النظام العربي الرسمي أن العراق سوف ينهار من جديد، وأن يد الدواعش ستبطش به ليحقق لدول الخليج مبتغاهم ، ولكن العراق تعلم الدرس ومد يده لإيران التي لم يجد غيرها ملاذا ، فساعدته وقدمت له ما يحتاجه من تسليح ومعدات ورجال ودعم مادي ومعنوي فبدأ ينتصر ويحقق تقدما يعتبر حتى يومنا هذا أكبر تقدم حقيقي ضد الإرهاب منذ 2011 لم تحققه باقي الدول العربية مجتمعة .. اليوم ينظر النظام العربي الرسمي بكل تبجح للعراقيين متهما إياهم بالتحالف مع إيران ! -التي لم يقتنع حتى اليوم انها ليست عدو رغم كل ما حدث وانما العدو هو من يتلاعب بقدرنا ومصيرنا ورزقنا ويستوطن أرضنا ويعبث بأمننا- النظام العربي الرسمي يتهم العراقيين أنهم يبتعدون عن محيطهم العربي ! ولسان الحال العراقي اليوم "مش عارف ارد عليكم اقول ايه !" .. قصة العراق منذ 1979 وحتى اليوم هي وصمة عار في تاريخ النظام العربي الرسمي ، والعراق اليوم يكتب بخط ابنائه وجنوده وحشده الشعبي شهادة وفاة هذا النظام العربي الرسمي ويكشف وجهه الأمريكي الزائف .. ومازال هذا النظام الذي تقوده دول النفط مغرور ومتكبر ويرتكب نفس الأخطاء بحماقة في كل من اليمن وسوريا وليبيا .. ولا يسعنا إلا أن نقول ان هذه الأحداث وهذا الزيف الذي بدأ يتضح بالتأكيد له ثمرته الجيدة ، فبسقوط النظام العربي "البترودولاري" ستظل الشعوب ساعية لخلق نظامها العربي الأبي الذي هي جديرة به وهو جدير بها .. وإن غدا لناظره لقريب ..