"أرض بلا شعب لشعب بلا أرض" ربما كانت هذه الكلمات القليلة المصاغة بدقة وعناية فائقة يقف أمامها أهل اللغة والبلاغة عاجزين عن الحذف والإضافة والتعديل، من أهم الكلمات التى شكلت المنطقة العربية، ورسمت خريطتها الحالية وملامح نزيفها وصراعها الدائم مع عدو –دائما- هو فى عداد المجهول، والمعلوم فى نفس الوقت. لا أعلم على وجه الدقة من قائل تلك العبارة، ولكن سأدع نفسى أُنسبها- ولو بالخطأ- لثيودور هرتزل، الأب الروحى والمؤسس الحقيقى للفكر الصهيونى الحديث، والذى استطاع أن يحول الفكرة التوراتية الدينية لمنهج سياسى قائم على رفض الاندماج بالشعوب الأوربية، وتذويب الهوية لصالح تلك الشعوب، وفى المقابل أطلق مشروع ضخم يبحث عن أرض جديدة وتأييد عالمى يكفل حق الهجرة والاستيطان، وروج لصالح ذلك المشروع فى كتابه: "الأرض اليهودية" والذى طالب فيه حكام العالم بإعطاء اليهود قطعة أرض ولو صغيرة لتكون وطنًا لهم وروج لهذه الفكرة عند العديد من الحكام: كالقيصر الألمانى، بل وحتى السلطان العثمانى عبد الحميد الثانى، الذى رفض الفكرة شكلا وموضوعا. كانت نقطة التحول الحقيقية لهرتزل- الصحفى اليهودى- عندما حضر محاكمة لضابط يهودى فرنسى متهم بالتجسس لصالح ألمانيا، وما أثير فى تلك المحاكمة حول هوية اليهود، وحقيقة انتمائاتهم القومية، وأحس بكم السخط والعداء ضد هذا الضابط المتهم، والذى صُب بالتبعية على هويته الدينية. وعلى الجانب الأخر كانت قوى صهيونية أخرى تعمل منذ سنوات على إشباع المذهب المسيحى البروتستانتى- وخاصة فى انجلترا- بما سمى: "بأرض الميعاد"، و"مملكة المسيح على الأرض"، مما دفعهم للدفاع ماديا ومعنويا وعسكريا عن حق اليهود فى احتلال فلسطين لتتم نبوءات الكتاب المقدس بعودة المسيح، لتصبح الديانة المسيحية مكملة لما بدأته اليهود ومحققة لأهدافهم، لاهدفها، وهو ما تعارضه باقى الكنائس المسيحية، وخاصة الشرقية منها ويبدو هذا واضحا فى اضطهاد اليهود للمسيحين من أصول شرقية فى فلسطين، وتدميرهم للكثير من المقدسات المسيحية، ولا يخفى علينا فى هذا السياق أن الولاياتالمتحدةالأمريكية غالبية سكانها يدينون بالمسيحية البروتاستانتية بهذا الطرح الذى يدعو للصراع المقدس! وبالفعل بدأت مجموعات يهودية بأعداد غيرقليلة فى الهجرة لفلسطين، وخاصة فيما بعد الحرب العاملية الأولى، وخاصة من يهود روسيا، أوربا الشرقية، وكان لهم نمط مشترك فى الاستيطان يهدف: فى البداية لعدم الاختلاط بسكان المنطقة من العرب المسيحين والمسلمين على حد سواء، وتملك مساحات- ولو قليلة- من الأراضى، وتحويلها لمعسكرات مغلقة تعيش بها الجماعة اليهودية، سميت تلك المعسكرات: "كيوبتس" وهى معسكرات سكنية زراعية مسلحة، فى تجمع قد يصل فى أقصى تقدير ل1500 فرد.. وهى منفصلة تماما عن السلطة المحلية، وتعتمد فى كل أمورها على الجهود الذاتية لسكانها ولها القوانين والتشريعات والأعراف الخاصة بها، بل إن لديهم المدارس والتعليم الخاص بهم والذى يتم للأطفال بشكل مجمع، وخارج سلطة الأب والأم؛ لتشكيل جيل جديد ذو عقلية قائمة على الاستيطان، تغذيها شعارات محددة مثل: "الأمان الذاتى, الجيش الشعبى, الأرض الموعودة, معركة المجد الإلهى، وغيرها من الشعارات التى أفرزت العديد من أبرز القاده فى تاريخ إسرائيل، مثل: دافيد بن غوريون، وموشيه ديان، وشيمون بيريز، وكان الجميع فى تلك المعسكرات يعمل لصالح الجماعة، ويقوم بما يفرض عليه فى نظيرأن توفر له الجماعة: الأمن والمأوى والغذاء، بل وقد افتتحت العديد من المدارس المهنية والزراعية لأبناء تلك الجماعات ليتخلوا عن مهنهم الأصلية، وكانت الأولوية المطلقة لتعلم الزراعة؛ لتحقيق إكتفاء ذاتى كامل كهدف أولى، ولتعميق الشعور بالانتماء للأرض والمحصول، كهدف ثانى لا يقل أهمية وخطورة.. لتنجح فى النهاية مساعى هرتزل فى تنظيم شعبه حول القصص التوراتى، وزراعة أفكاره شرقا وغربا؛ لتصبح الفكرة قوة، وتصبح القوة دولة ذات علم وسيادة وكيان مستقل.