تسرب مياه الصرف أسفل المباني.. والبيوت بلا أسقف.. والشروخ تملأ الجدران المنطقة تحولت إلي سوق للإتجار والتنقيب عن الآثار في غياب الدولة خبراء: ضرورة إعادة تجربة شارع المعز.. والموقع به آثار من 4 عصور عندما تمتزج رائحة التاريخ والبخور والمسك وأصوات النقر علي النحاس بمشاهد حية من آثار مساجد وبيوت وأسبلة وزاويا تحمل صبغات تاريخية متوالية من عصور متنوعة من الفاطمي للأيوبي للملوكي ثم العثماني، بكل تأكيد تشعر بالفخر بأنك ابن لهذه الحضارة العظيمة، وعمرك ضارب فيها بجذوره لمئات السنين، ولكن ما يحزنك أن هذه الصورة الجميلة بها ما يشوهها، من أكوام القمامة وتهدم بعض بيوتها الأثرية، وصرف صحي يهدد ما تبقي منها، وغياب أي أفق للتطوير. هذه الصورة العبثية المتناقضة متجسدة في منطقة "كفر الطماعين" بحي الجمالية، أعرق أحياء القاهرة الفاطمية.. يقول الحاج علي فهمي، علي المعاش، إنه مولود بالمنطقة بعد أن جاء والده في أواخر الأربعينيات للعمل في العطارة بمنطقة الأزهر، ومن ذلك الوقت وهو يعيش في كفر الطماعين الذي كان محفلا تاريخيا وثقافيا للطلاب من مختلف أنحاء العالم، الذين يأتون في نهم لطلب العلم والدين من الأزهر الشريف، وأكد أن حالة البيوت والمساجد بالكفر كانت أفضل حالا من 40 عام عن اليوم، حيث ساءت لعدة أسباب منها إهمال وزارة الآثار التي غابت عن الرقابة والمتابعة لهذه البيوت الأثرية، وغياب شبكات الصرف الصحي الجديدة التي تستوعب الأعداد الضخمة المتزايدة من السكان بالمنطقة وتأثير تسرب هذه المياه أسفل الآثار، وأخيرا سوء الحالة الاقتصادية لأهل المنطقة مما جعلهم ملهوفين بحثا عن الآثار أسفل البيوت. ومن جانبها، قالت أم فاطمة، ربة منزل 45 عاما، إن كفر الطماعين يحتاج لنظرة عطف واهتمام من الحكومة ليتحول إلي مكان أفضل من شارع المعز الذي ينال قدرا كبير من الاهتمام عكس كل المناطق المحيطة به في الجمالية، مشيرة إلى أن تحويل كفر الطماعين إلي مزار سياحي من خلال إحياء الحرف القديمة التقليدية مثل الحفر علي النحاس وصناعة الطرابيش وصناعة القباقيب وغيرها، سوف يعيد الحركة والنشاط ويوفر فرص عمل كثيرة للشباب العاطل علي المقاهي. وتقول سمر فتحي، رئيس لجنة المتابعة بحملة "مين بيحب مصر" ل"البديل"، إن كفر الطماعين يصنف كأحد المناطق الأثرية بمحافظة القاهرة، ويقع بمنطقة الجمالية، وترجع تسميته بذلك إلي أن الوافدين عليه في العصور الفاطمية والأيوبية والعثمانية كانوا يأتون طمعا في تحصيل العلم والدين بمنطقة الجمالية والأزهر، وكانت المنطقة تحظي بزيارة أعداد مرتفعة من السياح قبل ثورة 25 يناير وفقا للأهالي ولمسؤولي شرطة السياحة بالمنطقة، لكن الأمور تغيرت بعد ذلك وانخفض عدد الزائرين. وتؤكد أن أهالي كفر الطماعين، يعيشون داخل ممرات غريبة مليئة بالشقوق والشروخ والمباني الآيلة للسقوط، وآخرين يعيشون تحت أسقف مهدمة في بيوت مهجورة، ومنهم من يسكنون بممرات ضيقة يحتوي الممر منها علي أكثر من 22 غرفة مساحة كل منها لا تتعدى مترين ودون حمام، ووسط أكوام قمامة متراكمة، وحفر منتشرة وسط تلال رملية، ومياه جوفية طافحة علي السطح، ومبان مقامة وسط أماكن أثرية، وأطفال يلهون ببقايا قطع أثرية مهدمة، كما أن الباعة الجائلين منتشرون أكثر من السكان والسياح، رغم تصريحات محافظ القاهرة الدكتور جلال السعيد، بتقنين أوضاعهم وانتشالهم من الأرصفة والميادين. وتوضح فتحي، أن المنطقة يرجع تاريخها إلى عهد الفاطميين، وهو مكان أثري بقلب القاهرة الفاطمية مازال شاهدًا علي العديد من الملوك والأمراء باعتباره جزءا من حي الجمالية الذي ترجع تسميته إلي الوزير بدر الدين الجمالي، وبه يقع مسجدا الحسين والأزهر، والغورية مجمع تراث القاهرة حيث مشيخة الأزهر وجامع الحاكم بأمر الله، وجامع الأقمر، والمدارس الأيوبية والمملوكية، وخان الخليلي والصاغة والنحاسين، ويضم الحي أيضًا 18 شياخة أهمها الجمالية، والبندقدار، والمنصورية، والدراسة، والعطوف، وقصر الشوق، والخواص، وباب الفتوح، والخرنفش. وتطالب فتحي بتحرك المسؤولين وتكاتف جميع الوزارات لتلبية مطالب أهالي كفر الطماعين الذين يحتاجون إلي الخدمات الأساسية من الكهرباء والمياه والخدمات الصحية، وتوفير مصدر رزق لأهالي المنطقة التي كان يعمل أغلبهم في حرف تراثية مرتبطة بالسياحة مثل الحفر على النحاس والطباعة، ولكنها انقرضت في السنوات الأخيرة بعد تقلص أعداد السياح وتحول أصحابها إلي عاطلين. ومن جانبه، قال المهندس الحسين حسان، مؤسس حملة "مين بيحب مصر"، إن منطقة كفر الطماعين، بالجمالية تعتبر متحفا مفتوحا للكنوز الأثرية الإسلامية من العصور الفاطمية والأيوبية والعثمانية، ولكنها للأسف أصبحت مطمعا للسرقات، وتحولت إلي أهم مناطق الإتجار بالآثار، ويظهر هذا في الحفر تحت المنازل حتى تحولت إلي ما يشبه "الخرابات"، في غيبة من الدولة والمسؤولين وشرطة السياحة. وأضاف، أن أهالي المنطقة من المعدمين، ولا يدركون قيمة هذه الآثار وأهمية الحفاظ عليها فهم يبحثون عن قوت يومهم، والبيع والحفر والتنقيب أسفل بيوت الكفر الأثرية العتيقة التي يرجع تاريخها إلي مئات السنين هو أحد الوسائل لكسب الرزق، معربا عن أن الإتجار بالآثار ليس الكارثة الوحيدة التي تحدث غالبا في الخفاء وبعيدا عن العيون، بل هناك ما هو أنكي من إهمال واضح للجميع بترك مياه الصرف الصحي تنشع أسفل البيوت القديمة. وأعرب حسان، عن أن وزارة الآثار الحالية هي الأسوأ علي الاطلاق في مجال الحفاظ علي المناطق الأثرية، مشيرا إلى أن وزارة العشوائيات تتحمل أيضا مسؤولية عدم تطوير هذه المناطق ذات الطابع المعماري التراثي المميز، مطالبا برحيل الوزيرة ليلي اسكندر وزيرة العشوائيات والتطوير الحضاري، لعدم امتلاكها أية رؤية استراتيجية لحل أزمة العشوائيات في مصر، كما طالب بأن يكون هناك مجلس أعلي للعشوائيات يضم الخبراء في المجال ويوقع بروتوكول تعاون مع وزارة الآثار لإنقاذ المناطق العشوائية خاصة في الأحياء القديمة كالجمالية والدرب الأحمر وباب الشعرية وغيرها من مئات المناطق التي يفوح منها عبق التاريخ، ولكن في نفس الوقت تعاني من الفوضى والعشوائية وحرمان سكانها من الخدمات الأساسية. ويعبر الدكتور حسام إسماعيل، رئيس لجنة شرق القاهرة وبورسعيد بالهيئة العامة للجهاز القومى للتنسيق الحضارى، عن بالغ أسفه من الإهمال الشديد الذي لحق بالآثار المصرية علي اختلاف مراحلها، مشيرا إلى أن منطقة كفر الطاعين والجمالية بشكل عام من الأحياء العريقة التي تتميز بهضمها واستيعابها لعدة عصور تاريخية، فالجمالية نموذج مصغر من مصر، حيث تنوع الحضارات والثقافات. وأوضح أن منطقة الجمالية تضم معمارا وتراثا حضاريا يعود إلي القاهرة الفاطمية ثم الأيوبية ثم المملوكية ثم العثمانية وصولا إلى القاهرة الحديثة، وترك كل عصر بصمته علي جدران البنايات والمساجد والبيوت في الحي العريق، مشيرا إلى أزمة تسجيل المباني التي يمر عليها 100 عام كأثر، وأن وزارة الآثار تتهرب من تسجيلها لأنها تحتاج إلى ترميم وميزانية، ولكي تعفي نفسها من هذه التكاليف ترفض التسجيل، وأن المسؤولين عن التسجيل والفحص والحفاظ علي الآثار مجموعة من الموظفين أصحاب العقليات الروتينية، التي لا تهتم بالتراث الإنساني. وأشار إسماعيل، إلى أن اللجنة التي يشرف عليها أرسلت لوزارة الآثار خطابا لتقوم بتسجيل أثر "مدينة غرناطة" بروكسي بمصر الجديدة، حيث تعود مقصورتها إلي عهد الملك فؤاد 1926، فردت الوزارة قائلة "ليس ذا قيمة فنية أوأثرية"، وأضاف أن تسجيل الآثار بدأ عام 1881، ولكن الخريطة الحقيقية للآثار الإسلامية والقبطية التي تم تسجيلها منذ 1948 لا تمثل سوي 10 % من واقع الآثار الأصلية والباقي لا يعلم أحد عنها شئيا. وتضع انتصار الغريب، مؤسس حملة "ثوار الآثار"، روشتة بالحلول السريعة حال رغبة الدولة في إنقاذ الآثار والتراث، وتبدأ أولي خطواتها بحصر الوزارة لجميع الآثار الإسلامية بطول البلاد وعرضها، حتي ولو لم تكن مزارا سياحيا مشهورا، فالأثر قيمته الأصلية في الحفاظ علي هوية البلد، والخطوة الثانية فض الاشتباك بين الوزارات المعنية بالآثار وهي متعددة ومختلفة من وزارة الأوقاف والآثار والمحليات والإشغالات العامة وهيئة التنسيق الحضاري، وتعدد الجهات والوزارات يؤدي إلي إهدار حق الأثر في الحفاظ عليه وضياع تسجيله ليظل تائها مفرقا دمه بين أدراج المكاتب، مثلما حدث مع مسجد "صالح نجم الدين أيوب"، بالمنصورة وتلف بعض أجزائه في أعقاب ضرب مديرية أمن الدقهلية، حيث ضاع تسجيله بسبب تبعيته لوزارة الأوقاف وخلافها مع وزارة الآثار التي لم تسجله رغم مرور عليه 100 عام. وأكدت، أن عدم تسجيل الوزارة للآثار هو جريمة وإهانة في حق الأثر، معربة عن أن هناك مشكلة أخري تواجه الآثار الإسلامية وهي استغلالها كدواوين حكومية، وهو مما يجعلها عرضة للتلف بعد سنوات قليلة، فعلي سبيل المثال نقطة شرطة الغورية تحتل وتشغل مكانا أثريا هو "رواق السادة الشوام" الذي يوجد خلف الجامع الأزهر الشريف ناحية وكالة قايتباي، وهذا الرواق كان يقيم فيه الطلبة الشوام الوافدون للدراسة في العصر العثماني. وأشارت إلى أن حماية الآثار وإزالة الإشغالات الموجودة بالمباني الأثرية تحتاج إلي مجلس قومي للآثار تابع لرئاسة الجمهورية يمتلك صلاحيات قوية وحقيقية تعطي قراراته صرامة القانون، يتكون هذا المجلس من ممثلين من وزارات الآثار والأوقاف والمحليات والمحافظة وشرطة السياحة وهيئة التنسيق الحضاري، وشخصيات عامة وأثرية وخبراء وعلماء لتنفيذ مشروع قومي لإنقاذ الآثار. وتلفت الغريب، الأنظار إلي خطورة استغلال الآثار الإسلامية الفاطمية في إقامة حفلات وملتقيات ثقافية وندوات وورش عمل مثلما يحدث في بيت الغورية والسناري وقصر الأمير طاز والسحيمي، فالإضاءة الجديدة وإدخال التكييفات والحمامات وحنفيات المياه وغيرها من وسائل العصر الحديث، وإجبار الأثر لاحتوائها سوف تقصر عمر الأثر وفترات بقائه علي الأرض، ولن تراه الأجيال القادمة، فالأمر لن يستغرق 20 عاما قادمة وسوف تسقط البيوت والمساجد الأثرية من الصرف الصحي والرطوبة والنشع في الجدران. وأوضحت أن الدولة تستطيع إحياء المنطقة المحيطة حول الأثر مثل منطقة كفر الطماعين بالجمالية، فما المانع أن تقوم الدولة التي تنفق ببذخ علي مراسم الوزراء بشراء البيوت التي يقطنها الأهالي وينقبون فيها عن الآثار في لهاث ولهفة للثراء السريع، وتحول المنطقة إلي متحف مفتوح للسياح والمصريين والباحثين والمهتمين بدراسة التاريخ.