خلال الفصل الأخير من حكم دولة المماليك في مصر، ساد الاضطراب المجتمع المصري, خصوصًا الطبقة الحاكمة من المماليك حتَّى أنَّ الفترة من 1496 : 1501 قد شهدت تقلَّبَ ستة سلاطين على عرش مصر. ويُروى أنَّ الأشرف (قايتباي) عندما مرض مرضه الأخير خلعه مماليكه دون علمه، و(سلطنوا) ابنه محمد الذي كان في الرابعة عشرة مكانه ففسد وأفسد وحدثت محاولة انقلاب فاشلة، لم تدم سوى ثلاثة أيام عاد بعدها محمد بن قايتباي؛ ليُقتلَ في النهاية على يد خاله وحاميه الظاهر أبو سعيد (قانصوه) وهذا غير ( قنصوه الغوري) وقد تولَّى السلطنة لمدة عام واحد قبل أن يثور عليه قادة جيشه وأمراؤه؛ فيختفي دون مصير معلوم! وتسير الأمور من سيء لأسوأ؛ حتى خلع سلطان مجهول اسمه العادل (طومان باي) وهذا غير(طومان باي) الأخير، وزُعِمَ أنَّ (قانصوه) لم يزل حيًّا فنودي بعودته؛ ولكنَّه بالطبع لم يعد فاجتمع الأمراء الذين هم في ذات الوقت قادة الجيوش وأصحاب المصلحة والأموال؛ وقرروا تعيين (قنصوه الغوري) سلطانًا على مصر. ويذكر المؤرخ ابن إياس في (بدائع الزهور في وقائع الدهور) أنَّهم قالوا "ما يتسلطن أحد غيره وراحوا جرجروه وقعَّدوه على كرسي، وهو يبكي ويقول أنَّه لا يريد؛ فكتبوا محضر خلع العادل (طومان باي) بحجة أنَّه كان سفاكا للدم ونصَّبوا (قنصوه الغوري) بغير إرادته وبايعوه وأركبوه حصانًا، ومشى الأمراء قُدَّامه حتى أجلسوه على العرش، ودقت البشائر في قلعة القاهرة ونُوديَّ باسمه في الشوارع وكان عمره آنذاك نحو الستين. وليَّ الرجل المنصب مرغمًا؛ فناشد الأمراء إن هم أرادوا خلعه ألا يقتلوه بل يخبروه؛ فيترك الكرسي لهم طواعية؛ لكنهم قالوا له (كمَّل جميلك) فلا سلطان لنا سواك، فأنت وحدك القادر على توحيد الأمة وقيادتها في هذه الأزمنة العصيبة. ولا شك أنَّ الأمراء عندما اختاروه كانوا يوقنون باكتمال سيطرتهم عليه، واستحالة انقلابه عليهم، لقد كانوا يستكملون بتوليته (ديكور) الدولة ومظاهر الحكم؛ حتَّى يفرغوا هم للهو وجمع الثروات، يعاونهم في ذلك طائفة من الناس تعمل ضد مصالح الأغلبية بلا كلل! لكنَّ الرجل أثبت أنَّه رغم كبر سنه (عُقْر) فتلاعب بهم وأوقع بينهم, وكسر شوكتهم وأشبعهم سجنًا وقتلًا حتَّى انفرد بالسلطة والثروة معًا. والحقيقة أنَّ الرجل قد واجه أزماتٍ لا حصر لها: خزانة خاوية، مطالبات الأمراء قادة الجيوش المُلحَّة بمخصصاتهم المالية، اضطراب الأحوال، غياب الأمن، لكنَّه وبشجاعة وحسم أنهى تلك المشاكل وقاد البلاد للخلاص منها؛ فاستقرت الأمور وراجت التجارة في البداية على الأقل حتى اكتشفت البرتغال طريق رأس الرجاء الصالح، وفرضت الحصار الاقتصادي على مصر؛ فساءت الأحوال مُجددًا. ولكنَّ الرجل بعد أن قضى على الأمراء الذين (سلطنوه) كان لابد له من أمراء يدينون له بالولاء؛ فربَّى وسمَّن أمراءً جددًا صاروا بمرور الوقت قادةً للجيوش، وأصحاب المصالح الحقيقية في البلاد، ثم ما لبثوا أن خذلوه مثيرين، الفتن مطالبين بامتيازات، ومخصصات مالية إضافية، ثم كانت الطامة الكبرى بخيانتهم له؛ ليقضي نحبه مغدورًا تحت سنابك الخيل في (مرج دابق) لتبدأ مصر مرحلة استعمارية هي الأسوأ عبر تاريخها الطويل. والحقيقة أنَّ تغييب الشعب أو اختصاره في شخص باعتبار أنَّه الضرورة التي لا محيص عنها، أو أنَّه المتفضل على الناس بالحكم لا يقود البلاد غالبًا إلَّا إلى الانهيار والضياع وربما الاحتلال. تبدأ الصورة في التكوُّن وردية مشرقة بالأمل؛ لكنَّ النهاية تكون مُرَّة وصادمة.