استيقظت فرنسا أمس على وقع هجوم إرهابي يُعد الأكثر دموية منذ عام 1961، هجوم جعل القيادة السياسية الفرنسية تتلجم عن الحديث، وجعلت الرأي العام والعالم أجمع في حالة من الذهول المطبق، أطلقت عليه الشرطة الفرنسية "مذبحة"، لتذوق باريس بذلك بعضًا من الإرهاب الذي رعته برفقة حلفائها في الدول العربية أمثال ليبيا وسوريا والعراق، وينقلب السحر على الساحر، وتعرف القيادات السياسية الداعمة للإرهاب أنها ليست بمنأى عنه. نفذ مسلحان هجوم محترف على مقر صحيفة "شارلي ايبدو" الأسبوعية الساخرة بباريس، في اعتداء غير مسبوق أوقع 12 قتيلا و11 جريحًا، مستخدمين رشاشات كلاشنيكوف وراجمة صواريخ صغيرة كانت بحوزتهم، ما دفع فرنسا إلى رفع مستوى الإنذار في العاصمة وضواحيها إلى الحد الأقصى، ويعتقد أن الهجوم ارتكب بدافع الانتقام من الصحيفة التي توعد المتطرفون بمعاقبتها إثر نشرها في 2006 رسومًا مسيئة للنبي "محمد"، حيث سُمع المهاجمان يرددان عبارات "الله أكبر.. انتقمنا لنبينا". توقيت وقوع الهجوم في منتصف النهار ووضحه، وأن يتم قتل رسامي الكاريكاتور فيها "جان كابو"، و"ستيفان شارب" أثناء اجتماعها التحريري الأسبوعي، دليل على أن المهاجمين فحصوا ما يجري داخل مقر الصحيفة قبل الانتقال إلى تنفيذ الهجوم، حيث اختاروا ساعة انعقاد اجتماع التحرير من أجل ضمان وجود كل الصحفيين والرسامين وهو ما يفسر ارتفاع عدد القتلى إلى 12 شخصا. تعرفت السلطات الفرنسية على منفذي الهجوم ونشرت الشرطة صورة اثنين من المطلوبين الثلاثة، وهم أشقاء "سعيد كواشي" و"شريف كواشي" اللذان يحملان الجنسية الفرنسية والموجودان في باريس، إلا أن المطلوب الثالث "حميد مراد" قد سلم نفسه إلى الشرطة الفرنسية التي أطلقت عملية أمنية في مدينة "رانس" في شمال شرق البلاد للقبض على المشتبه بهم، ورغم معرفة الشرطة للمشتبة بهم في الهجوم إلا أنها فشلت حتى الآن في إيقافهم رغم إطلاقها لعمليات مطاردة ضدهما في شوارع باريس، حيث أقدم المهاجمون فور تنفيذ الهجوم على التخلي عن السيارة التي كانوا يستقلونها وسرقوا سيارة أخرى في شارع "ريشارد لونوار" بعد طرد سائقها منها، رفعت الحكومة الفرنسية حالة التأهب الأمني في باريس وضواحيها إلى درجة "هجمات إرهابية"، وهي أقصى درجة على سلم الطوارئ الأمنية. يعتبر الفرنسي "شريف كواشي" البالغ من العمر 32 عامًا، إرهابياً معروفًا لدى أجهزة مكافحة الإرهاب الفرنسية، خاصة بعد إدانته للمرة الأولى عام 2008 لمشاركته في شبكة كانت ترسل مقاتلين إلى العراق، أما الشريك المفترض للشقيقين والذي سلم نفسه ليلا للشرطة في شمال شرق فرنسا "حميد مراد" والبالغ من العمر 18 عاما فهو صهر "شريف كواشي"، ويشتبه بأنه ساعد مطلقي النار. اشتهرت صحيفة "شارلي ايبدو" تاريخياً بالإثارة، وتناغمت مع اليسار المتطرف، وسخرت من أبرز رؤساء فرنسا، "شارل ديجول"، حتى في يوم وفاته، ونشرت رسوماً كاريكاتورية كثيرة عن الكاثوليكية والكنيسة في فرنسا، كما تعرضت لشخص المسيح "عيسى" مئات المرات، لكنها لم تتعرض لكل هذا التهديد إلا حين أعادت نشر رسوم مسيئة للنبي "محمد"، وبدلاً من التراجع أمام التهديدات، وهجوم سابق عليها، رفعت الصحيفة مستوى كلامها، واستمرت في نشر رسوم كاريكاتورية عن التطرف الإسلامي و"تنظيم القاعدة"، حيث بثت رسماً ساخراً عن "داعش" و"أبو بكر البغدادي" قبيل الهجوم عليها أمس. انتفضت القيادات السياسية الفرنسية فور وقوع الحادث، حيث وصل الرئيس الفرنسي "فرانسوا أولاند" إلى موقع الهجوم فور حدوثه، حيث رافقه رئيس الحكومة "مانويل فالست" ووزير الداخلية "برنار كازنوف"، وأعلن من هناك أن الهجوم الذي تعرض له مقر صحيفة "شارلي إيبدو" هجوم إرهابي، متوعدًا بمعاقبة الفاعلين ومتابعتهم، وعبر "أولاند" عن مخاوفه من ردود أفعال على الهجوم، وتحدث عن "ضرورة تضامن كل مكونات المجتمع الفرنسي في هذه الظروف وإظهار أن الشعب الفرنسي شعب واحد". وفي ردود الفعل العالمية، دان البيت الأبيض "بأشد العبارات" الهجوم، وقال "كل البيت الأبيض يتضامن مع عائلات الذين قتلوا أو جرحوا في هذا الهجوم"، وكذلك الحال بالنسبة للإتحاد الأوروبي، ودانت طهرن الهجوم وقالت إن أي عمل إرهابي يستهدف الأبرياء هو خارج تعاليم الإسلام، ونددت المستشارة الألمانية "انجيلا ميركل" في رسالة تعزية إلى الرئيس الفرنسي "هولاند" بالهجوم، كما بعث الرئيس الروسي "فلاديمير بوتين" برسالة تعزية إلى نظيره الفرنسي يدين فيها بحزم الهجوم على الصحيفة، وأدان الرئيس الأمريكي "باراك اوباما" الحادث، وبدوره ندد رئيس الوزراء البريطاني "ديفيد كاميرون" بالهجوم الذي وصفه بالإرهابي الشنيع، معبرًا عن تضامنه مع فرنسا في معركتها ضد الإرهاب، كما أدان الرئيس "عبد الفتاح السيسي" والجامعة العربية والأزهر الشريف الاعتداء على الصحيفة "شارلي ايبدو". تجمع مئات الأشخاص في نيويوركوواشنطنوكندا متحدين الصقيع، تنديدًا بالاعتداء ودفاعًا عن حرية الصحافة، وانضمت مديرة صندوق النقد الدولي "كريستين لاغارد" إلى نحو 300 متظاهر في واشنطن، لإظهار "تضامنها مع مواطنيها وتعاطفها مع الضحايا"، ونظم الفرنسي المقيم في الولاياتالمتحدة "اوليفييه رومي" التظاهرة في العاصمة الأمريكية، وقال "لقد عشت اعتداءات 11 سبتمبر في الولاياتالمتحدة، واليوم نعيش 11 سبتمبر الفرنسي"، وقبل تلاوة أسماء ضحايا الاعتداء، أكد "نهاد عواد" المدير التنفيذي لمجلس العلاقات الأمريكية-الإسلامية أن اليهود والمسيحيين والمسلمين موحدون جميعا ضد الطغيان، وفي نيويورك، تجمع مئات الأشخاص معظمهم من الفرنسيين في ساحة "تايمز سكوير" وانشدوا النشيد الوطني الفرنسي ثم هتفوا "شارلي، شارلي، وشارك في التحرك السفير الفرنسي لدى الأممالمتحدة "فرنسوا دولاتر"، والقنصل الفرنسي في نيويورك "برتران لورتولاري"، وتظاهر المئات أيضا في "مونتريال" و"كيبيك" و"وينيبيغ" بوسط كندا تضامنًا مع الصحيفة المستهدفة.