الحدث الأبرز هذا العام، في يوم وليلة شغل ما فعله مسلحي التنظيم في الأسبوع الأول من يونيو العالم، فاجتياح شمال غرب العراق وصولاً إلى مدينة الموصل، ثاني أكبر المدن العراقية، وانسحاب القوات العراقية التي عُدت بعشرات الآلاف، أمام مقاتلي التنظيم الذي وصل أقصى تقدير لهم ساعتها ببضعة ألاف لا يتجاوزا أصابع اليد الواحدة جاء بمثابة زلزال لكافة الأطراف الإقليمية والدولية، وما بين محاولة التوظيف السياسي في صراعات أكبر وأقدم برز بعد أقل من شهر من التاريخ الآنف ذكره أن "الدولة الإسلامية في العراق والشام" والمعروفة إعلامياً ب"داعش" تمثل تحدياً رئيسياً بل ووجودياً لبعض من الأطراف السابقة، وخاصة التي سمحت ودعمت تواجدها ونموها في العراق أولاً ثم سوريا؛ فإعلان التنظيم عن إقامة ما أسماه ب"الخلافة" وإعلان قائد التنظيم إبراهيم عواد إبراهيم البدري السامرائي الملقب بأبو بكر البغدادي، خليفة ل"الدولة الإسلامية" مثل انقلابا مفاجئ في موازين القوى في المنطقة، وطفّرة في ظاهرة التنظيمات الجهادية التكفيرية على مستوى العالم. إذا صح إطلاق وصف الظاهرة على "داعش" فمن الخطأ أن تُحَدد بدايتها من منتصف 2014، فجذور التنظيم يمتد إلى فترة ما بعد الاحتلال الأميركي للعراق، حيث بدأ تكتل الجماعات والتنظيمات ذات الإيديولوجية التكفيرية تحت مظلة تنظيم واحد بايع تنظيم القاعدة تحت مسمى "الدولة الإسلامية في العراق"، وزعيمه في ذلك الوقت، أسامة بن لادن، ثم إلى المرحلة السورية، حيث تدفق مقاتلي التنظيم تحت مسمى "جبهة النُصرة" إلى سوريا، بمباركة ودعم دول الخليج وعلى رأسها السعودية وقطر، وذلك في وقت مثلت فيه الأزمة السورية فرصة إنعاش للتنظيمات التكفيرية التي لوحقت على مدار العقد السابق عسكرياً وأمنياً، وخاصة بعد مقتل بن لادن، وميل خليفته أيمن الظواهري، إلى حصد ثمار وصول الإسلاميين إلى الحكم في عدد من الدول العربية، وهو الأمر الذي حفز من دواعي الانشقاق بين نهجي القاعدة وصولاً إلى الاصطدام بين "الدولة الإسلامية في العراق-"التي أعلنها البغدادي في مارس -"الدولة الإسلامية في العراق والشام"- من جهة وبين "جبهة النُصرة" وقائدها أبو محمد الجولاني وبعدها بالظواهري وتنظيم "القاعدة" من جهة أخرى بعد إعلان الخلافة. بعد إعلان الخلافة، دخلت ظاهرة داعش مرحلة جديدة، عنونت بإعلانها "الدولة الإسلامية" وإطلاق شعار "باقية وتتمدد"، واتسمت هذه المرحلة بعدة سمات أولها:إفقاد فرصة لتوظيف داعش سياسياً في إطار الصراع الإقليمي بين السعودية وإيران في العراق، فبداية أحداث الموصل حاولت السعودية عن طريق ساستها وإعلامها إصباغ صفة الانتفاضة الشعبية/العشائرية على ما حدث في الموصل وحتى ولو على أساس طائفي، رداً على قمع حكومة المالكي، وهو ما استمر حتى يوليو حيث أعلنت الخلافة، التي بحسب بيان التنظيم أن من يتخلف عن بيعة الخليفة من المسلمين "مارق وجب قتله" وأنها لا تحدّ بسورياوالعراق بل بكل اراضي المسلمين، وأطلق عليها منذ ذاك الوقت "الدولة الإسلامية". وهو الأمر نفسه الذي تم من جانب حكومة كردستان العراق. ثانياً: بداية لانعطاف هام في تاريخ الإيديولوجية الجهادية التكفيرية، فمن ناحية أضحى واقع الخلافة-وهو الآلية التي تحقق هدف معتنقي هذا الفكر- أمراً واقعياً وهو ما جعل معظم الحركات والتنظيمات الجهادية بل وحتى على مستوى الأفراد، يؤيدون توجه وخط داعش، بعد تكلسّ نهج القاعدة تحت قيادة الظواهري. وثالثا:ً وهو بُعد أمني، حيث انتشار افكار داعش وانتماء مئات الأوربيين إليها جعل الدول الأوربية تنظر إلى التنظيم كتهديد لا يمكن التعاطي إلا بالمواجهة، وهو ما أعاد ترتيب أوراق العملية السياسية برمتها في المنطقة طبقاً لمواجهة داعش، وبالتوازي مع ذلك استقبلت الدول الفاعلة في المنطقة التراص الدولي والإقليمي ضد داعش كمحاولة لحصد استثمار سياسي أخير بعد سنوات من الإخفاق في سوريا. وكذلك مثلت داعش البوابة الذهبية لعودة الهيمنة العسكرية الأميركية في المنطقة، تحت غطاء التحالف الدولي. مواجهة "داعش" اتخذت عدة طرق حسب هدف كل دول أو عدة دول، ففي حين اشترطت الولاياتالمتحدة والسعودية وباقي حلفائهم في اجتماع جدة أن محاربة التنظيم يجب أن تتم بموازاة محاولات إسقاط النظام السوري ودعم ما سُمي بالمعارضة المعتدلة، ذهبت تركيا إلى استمرار دعم داعش وتغطيتها عسكرياً وإعلامياً لمقايضة ذلك بنصيب أكبر من ثمار التحالف، سواء احتضان ما يسمى بالمعارضة المعتدلة من الدول الإقليمية الفاعلة خاصة فيما يتعلق بالملف الكردي، وعلى حسب سيناريو ينقذ السياسة الخارجية التركية المتعثرة. فيما ذهبت إسرائيل إلى رؤية أكثر جذرية في الاستفادة من التحالف ضد داعش، بداية من دعوة رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، للرئيس الأميركي، باراك أوباما، أن "يترك كِلا من أعدائه يحاربون بعضهم وإضعافهم" مروراً باستثمار فرص الزج بالمقاومة الفلسطينية واللبنانية في سردية "التنظيمات الدينية الإرهابية"، إلى استغلال مواجهة داعش في تعزيز علاقتها الأمنية بدول عربية مثل الأردن والسعودية ومصر، نهاية بدعم المسلحين في الجبهة الشرقية الموازية للجولان المتحل، بما فيهم "جبهة النُصرة". أما إيران، فكانت أولويتها في 2014 وقف تقدم داعش في العراق، وبموازاة ذلك إفشال تقدم مسلحي التنظيم نحو بغداد، حيث وعدْ أبو بكر البغدادي دخولها في عيد الأضحى، ونجحت طهران في محاصرة مسلحي التنظيم وإيقاف تقدمهم في المثلث الحدودي بين العراقوسوريا وكردستان العراق، بتعزيز التحالف مع العشائر الكردية ومقاتلي البيشمركة، وذلك بخلاف تراجع مسلحي داعش في غربي سوريا وأيضا على الحدود الشرقية مع لبنان. يبدأ عام 2015 بسيناريوهات عدّة متعلقة بالأساس بظاهرة داعش وتداعياتها الإقليمية والدولية، فمن إعادة نظر الإدارة الأميركية في ما آلت إليه علاقاتها مع حلفاءها التقليديين منذ 2011 وحتى 2013 وخاصة بعد الإطاحة بالإخوان المسلمين في مصر ومباركة المبادرات العسكرية لهم فيما يخص بمكافحة داعش، مروراً ملاحقة معتنقي أفكار التنظيم وايدولوجيته في البلاد الأوربية، إلى رهان قاعدة أيمن الظواهري على انتظار ما ألت إليه خطوات البغدادي الجريئة وما ترتب عليها من استنفار دولي وإقليمي ضد داعش، وهذا يتعلق أيضاً بمستقبل تطور الحركات الجهادية على مستوى العالم وخاصة الممتدة من افغانستان وحتى نيجيريا، في حسم التردد بين نهجي التنظيمين. وبخلاف الفرضيات والسيناريوهات السابقة، يُختم 2014 بحقائق من ضمنها تراجع داعش ميدانياً في العراقوسوريا، وبتمددها خارج البلدين إلى مصر ودول أخرى مثل ليبيا والجزائر، عن طريق إعلان بيعة تنظيمات جهادية في هذه البلاد لخليفة داعش. وفيما يتسق الشق الأول المتعلق بتراجع التنظيم الإرهابي في سورياوالعراق مع ما اعلنته إيران أن لا عودة للهيمنة العسكرية الأميركية إلى المنطقة، يطرح الشق الثاني سؤال عن مدى جدية التحالف الدولي في إيقاف التنظيم ومنع امتداده إلى دول أخرى، فحتى كتابة هذه السطور لم تنتج عن ضربات التحالف الدولي الجوية أي فاعلية تذكر، فيما استثمرت المنابر الدعائية لداعش استقالة وزير الدفاع الأميركي، تشاك هيجل، كأنه انتصار يحسب لها، وهو ما يفتح أفق التساؤل في العام الجديد حول مدى نجاح أياً من الاستراتيجيتين الخاصتين بمواجهة داعش، الاستراتيجية الأميركية-السعودية، أم الإيرانية.