فقط في مصر نهتم بما نشاهده ونعرفه، مهيمنًا علينا بريق المركزية التي بفضلها سكنت الأطراف (سيناء والنوبة) رمال الصحراء، هذه القضية الشائكة ليست وليدة اللحظة ولن نخوض في تفاصيلها كثيرًا ولا الأسباب التي آلت إلى هذه النتائج، بل سنذهب عزيزي القارئ في رحلة معرفية ممتعة إلى هذه الأطراف بصحبة حوارات ونقاشات يقدمها لك «البديل» مع مجموعة مثقفين من أبناء النوبة وسيناء لنقترب أكثر من هذه البيئات المهمشة في مصر. «حسونة فتحي» شاعر سيناوي كبير، نبدأ معه جولتنا الأولى في شمال سيناء، إذ يقربنا أكثر من البيئة السيناوية وأهلها والمشاكل التي يواجهونها وبماذا يطالبون ويطمحون. «سيناء ما هي إلا أرض ثرية غنية بكل خير، بها شعب ينحت الصخر ويحرث الرمال ليملأ هذي الأرض ظلالاً وأمناً»، بهذه الكلمات البسيطة يقدم لنا حسونة صورة جميلة لسيناء التي ظلمتها كتب التاريخ، خاصة المناهج التعليمية التي تجاهلت كثيرًا من بطولات شعبها في مطاردة الاحتلال الإنجليزي وغيره على مصر. سيناء خارج المناهج التعليمية المصرية! يقول «حسونه» التاريخ يحمل لسيناء وأبنائها صفحات ناصعة لم يطلع عليها أحد، منذ مقاومة حملة نابليون وصمود العريش، إلى ما قبل الاحتلال الانجليزي وقضية اللورد "بالمر" أستاذ الشرقيات والجاسوس الإنجليزي الذي قتله وصحبه رجال مقاومة سيناويين بعد اكتشاف أمره؛ حيث كان يدعي أنه تاجر جِمال، وهو في حقيقة الأمر مُلكف بقطع خطوط الاتصال في سيناء لمنع التواصل بين "عرابي" والدولة العثمانية، وكذلك لاستمالة قبائل سيناء وتحييدهم وضمان عدم انضمامهم لجيش المقاومة الشعبية لدعم عرابي، وتم بعد مصرع "بالمر" بزمن القبض على رجال المقاومة الذين قتلوه وتم إعدامهم وتركوا معلقين لثلاثة أيام ليعتبر الشعب المصري، وهي كما نرى قصة بطولة وجب وضعها في مناهج التعليم أسوة بحادثة "دنشواي" التي تحولت لأسطورة مصرية، ولدحض ما وضعه "نعوم شقير" من أكاذيب حول قضية بالمر. كذك مؤتمر" الحَسَنة" الذي أقامته سلطة الاحتلال الإسرائيلي أواخر عام 68 ليقر شيوخ القبائل برغبتهم في تدويل سيناء، لكن الشيوخ خدعوا الكيان الصهيوني بالاتفاق مع المخابرات المصرية وأعلن الناطق باسمهم "الشيخ سالم الهرش" أن سيناء مصرية للأبد وإن رئيس السيناويين هو الرئيس" جمال عبد الناصر"، وهذا الحدث إن دل فإنما يدل أن السيناويين هم المجتمع الوحيد الذي تم اختبار شدة ولائه وانتمائه لمصر ونظامها وقائدها. حقائق كثيرة غائبة عنا لا نعرفها عن سيناء، ربما -كما ذكر حسونة- لتجاهلها في المناهج التعليمية، لكن هذا لا ينفي التواصل الذي حرص عليه أبناء سيناء منذ بداية ثمانينيات القرن الماضي من خلال المؤتمرات الأدبية والملتقيات الثقافية والندوات والإعلام وكل ما يتاح من سبلٍ للتواصل، وهنا يطالب «حسونة» بإقامة قناة تلفزيونية خاصة بسيناء تنقل واقعها ورسالتها وتمنح أبناءها حق التواصل مع أبناء وطنهم وتتيح للشباب المصري فرصة المعرفة عن قرب، لكن الدولة- حتى الآن- لا تزال غائبة. فلسطين هي أم القضايا لدى المواطن السيناوي في الوقت الراهن نعيش أجواء مضطربة في سيناء، وصل لاتهام أهلها بالخيانة لتعاونهم من أنصار بيت المقدس الذين يعلنون دومًا عن مسئوليتهم لأي حادث إرهابي في سيناء، في المقابل هناك رؤية إسرائيلية تقول أن سيناء ليست مصرية وأنها فلسطينية ويجب احتلالها، فكيف يتعامل أهالي سيناء وسط هذا الصخب السياسي مع القضية الفلسطينية؟ هنا ينفي «حسونة» بكل قوة هذه التهم التي لا وجود لها، قائلاً: يكفي القول أن أول احتفال جماهيري أقيم بمناسبة الاستفتاء على الدستور بعد عهد "مرسي" أقامه السيناويون بأعداد مهولة نسبة لعدد السكان، ويكفي أيضاً أن نتذكر أن أول نشأة للأنفاق بين شمال سيناء وقطاع غزة كان لدعم الشعب الفلسطيني ودعم صموده، فالقضية الفلسطينية هي أم القضايا لدى المواطن السيناوي، ولا ننسى الامتداد العائلي والترابط بين العائلات الفلسطينية والسيناوية منذ فجر التاريخ. المواطن السيناوي لا يزال حبيس هامش الوجدان المصري مع كل حادث إرهابي في سيناء يصيح المحللون عبر شاشات التلفاز "لماذا لا تعمر سيناء حتى الآن منذ 73؟"، في حين أن لأبناء سيناء في هذا الشأن تفسيرًا خاصًا وهو ما يوضحه شاعرنا بقوله: ما يدور هو مفهوم بسيط أثبتت السنوات والتجربة ثباته وصحته حتى الآن، وهو أن سيناء كأرض هي ملء وجدان المواطن المصري والسلطة المصرية على مر العصور، بينما المواطن السيناوي لا يزال حبيس هامش هذا الوجدان بل خارجه في أغلب الأحيان. الكيان الصهيوني يصل إلى مآربه القذرة في سيناء عبر موجات الأثير إهمال الحكومة المصرية للمواطن السيناوي منح الاحتلال الاسرائيلي فرصة عظيمة للهيمنة على عقل السيناوي -وبحسب قول حسونة- يتلخص الأمر في أن قناة إذاعية إسرائيلية تبث عبر برامجها مقاطع من "الدحة" أو"الدحية" والتي تمثل جزءً من السامر السيناوي، وتبث خلال تلك البرامج أيضًا رسائلها الإعلامية الهدامة ليتلقاها المواطن السيناوي البسيط وتسهم في تكوين شيء من ثقافته ومعارفه، هذا الباب للدولة كما أشرنا سيظل يمنح الكيان الصهيوني فرصة الوصول إلى مآربه القذرة بكل يسر، لكنه الحصار الذي يقع تحت طائلته الآن كل مواطن يقيم على أرض سيناء، وخطر ضمن ما يتعرض له من مخاطر كثيرة تحيط به من كل جانب. إبداع المرأة السيناوية لا يزال حبيس المجالس الضيقة لسيناء وجهًا مشرقًا بجانب كل هذه المشاكل التي تعانيها، فهي أرض لكبار الشعراء والأدباء كحاتم عبد الهادي السيد، وسالم أبو شبانة، محمود فخر الدين وغيرهم الكثيرين، لكن في هذا الصدد سيناء كغيرها من مدن مصر، إذ تغيب المرأة عن المشهد الإبداعي والثقافي، ويتفق معنا «حسونة» قائلًا: تلك حقيقة، فالمفردة الأساس في ثقافة المجتمع البدوي السينائي عي الشعر، وما تقرضه المرأة السيناوية من شعر بدوي شفاهي يظل حبيس مجالس ضيقة، إلى أن يخرج للناس على أنه أدب شعبي موروث لا أحد يعرف صاحبته، أما ما هو مكتوب من شعر أو نثر بكل أشكاله وتنوعاته فيظل العدد قليلاً لما تفرضه العادات والتقاليد على الكثيرات، ولما يفرضه أكثر حياؤهن الذاتي. نريد حق الحياة كمواطنين مصريين من الدرجة الأولى في ختام جولتنا الأولى في شمال سيناء، يستعرض شاعرنا بعضًا من مطالب السيناوين، قائلًا: المطالب أبسط مما يتخيل الجميع، تتمثل في حق الحياة كمواطنين مصريين من الدرجة الأولى، فهم يؤدون واجباتهم غير منقوصة ولا متأثرة بنقص حقوقهم، وأن يتملك المواطن في سيناء أرضه وبيته، فسيناء كلها لا تزال تعامل على أنها أملاك دولة ولا احد يملك بيته إنما هو منتفع بالأرض رغم تأكد الولاء والانتماء، الحق في أن توضع سيناء وأهلها على خارطة الوزارات بخط واضح، وأن توضع في متن خارطة وزارة الثقافة ومؤسساتها، فالعريش مثلاً تستحق أن يتم اختيارها كعاصمة للثقافة المصرية العام المقبل، وأن تقام فيها كل فعاليات الدولة الثقافية ليقترب المجتمع المصري -كله- أكثر من هوية وثقافة المجتمع المصري السيناوي.