في إعادة لعروض مهرجان الجيزة الأول باسم مهرجان " سينما الشارع " حيث كان مقررا أن تكون عروضه مفتوحة لولا بعض العراقيل في التجهيزات ، والذي أقيم من 13 أكتوبر حتى 15 أكتوبر في مركز الجزيرة للفنون ، تضمن ثاني أيامه خمسة عروض لأفلام قصيرة تتنوع ما بين التسجيلية والروائية ، تميزت معظمها بعمق فكرتها وتجربتها الإنسانية وتنوع أفكارها ، فأما الفيلم الأول فكان " حلوان أنا " التسجيلي للمخرج محمد عادل ، وهو عبارة عن سرد ذاتي صوتي لشاب ولد وعاش في منطقة حلوان .. يحبها ويكرهها .. يريد الابتعاد عنها ولا يريد ، فقد امتزجت بذكرياته لكن لا يقو على الإكمال بها ، ثم يحكي عن مزيج والديه بين أم كارهة لها تريد الرحيل وأب يحبها لأنها تشبه بيئته الأم حيث كان في الأصل من الريف ، لتبدأ الصورة ليلية بعيدة للمدينة بأضوائها ثم تبدأ اللقطات القريبة واستعراض العشوائية والزحام ، وقد تميزت الصورة بلمسات فنية موحية ومن أبلغها تعبيرا مشهدا لنباتات تتنفس تحت الماء فهي مغمورة بالماء لكن هناك فقاقيع هواء تتحرك تحت الماء ، مع استخدامات تشكيلية للصورة كأن تفترش عدة ألوان على زجاج شفاف كأنه الشاشة ليسكب عليها اللون الأسود ويغمرها ببطء ، ويستمر سرده الهادىء عن علاقاته وصداقاته وما كان يعانيه في مواعدته لهم بأن يذهب هو بالضرورة إليهم حيث يعتذرون عن المجيء هناك دائما ، يسميها مدينة "الميكروباص" حيث اكتسبت لغة السوق ويضرب مثلا بشخصيات أدبية من حلوان اعتزلت الخروج مثل الكاتب مصطفى ذكري ، ويتدفق سرده ليصل لما كانت عليه قديما كمدينة للباشوات من خلال حكيه عن كلام رجل عجوز يترحم على أخلاقيات وسلوك هذا الزمن ناسيا أنه أيضا مع الزمن ..تغير ، ومع سرده يقص حكايات في المدينة كصاحب محل عصير" جنة الفواكه " الطيب المبتسم الذي تغير ولبس الجلباب وصار متجهما وسمى محله " فواكه الإسلام "، كما يحكي عن الأميرة العلوية " عين الحياة " التي كانت تعشق حلوان وتتسلل من حراسها لتحتك بالناس ، لينتهي بتوجيه حديثه إلى حلوان نفسها وما تسببه له من حيرة ورغبة في الابتعاد لكنه لا يستطيع البعد عنها . أما الفيلم الثاني فيحمل بعدا إنسانيا رغم ما يبدو من عنوانه " إنت يا حمار " وهو روائي سيناريو وحوارمينا ألبير ورامي أبادير وإخراج مينا ألبير ، يبدأ بشاب يغسل الصحون ويأكل وحينما يجلس يسمع صوتا نسائيا يناديه " إنت يا حمار تعالى أقولك " فنجد امرأة كبيرة في السن شعرها أبيض يضحك معها ثم يمشط شعرها ، وهكذا نجدها تشتمه من آن لآخر فيعقب الكلمة السيئة كلمة حنونة تطلب منه البقاء معها، لنعلم بعد ذلك أنها جدته تعيش وحيدة بينما يعيش مع أبيه ، حتى تهاتفه مرة في وقت متأخر من الليل مدعية سقوطها فيذهب إليها سريعا من مكان بعيد ليكتشف أنها كانت حيلة ليأتي إليها حيث تعاني الوحدة وتعامله كأن أمرا لم يحدث وتفكر معه في الخروج أو الطهي لأجله أو مشاهدة التليفزيون وتطلب منه المبيت معها .. فيفعل ليستيقظ على نفس النداء " انت يا حمار "، الفيلم يحمل قيمة إنسانية عالية في التعامل مع كبار السن وتذكر الأجمل منهم طوال السنين ويوجه الأنظار لضرورة رحمة هذا العمر بصبر جميل وحب أجمل ، وقد كان الممثلون خاصة الجدة والحفيد الشاب على درجة جيدة وتلقائية في التمثيل . ثالث الأفلام التي عرضت كان بعنوان " أوني " وهو فيلم تسجيلي عن قصة " أوني ملك الدرب الأحمر " لأحمد خالد وإخراج سالي أبو باشا ، وهو أيضا يحمل معنى إنسانيا قدم بشكل واقعي بسيط ، يبدأ الفيلم بمشهد لمسجد في شارع وصوت أذان ليخفت تدريجيا ويظهر صوت أغنية " بحلم بيك " لعبد الحليم حافظ لنجد غرفة تملأ جدرانها صور للفنانة ليلى علوي بينما شخص نائم تحاول امرأة إيقاظه برفق وتدليل وتناديه " أوني " وامرأة أخرى في الخارج تناديه بتدليل أكبر ، ليظهر "أوني" وهو شاب من ذوي الاحتياجات الخاصة متراجع ذهنيا ونعرف فيما بعد أنه ولد كذلك ، تدلله أمه وتحبه كثيرا وتلبي طلباته التي بعضها يصر على حضورها في التو كالبدلة التي يريد ارتداءها ، يندمج في المجتمع ومع الجميع .. نراه محبوبا من الكل ، يبحث عن عمل ويحاول الاجتهاد في سنفرة الرخام بمصاحبة نفس تدليل الأم التي تحمد الله على وجوده في حياتها وتعول عليه حماية وإعالة أخواته البنات الأكبر إذا ما توفيت ، الفيلم يعرض مشاعر الأم من خلال تصرفاتها الطبيعية معها وحديثها عنه ويبين كيف تعبت معه ورفضته المدارس إلا المدارس الداخلية التي رفضت إرساله لها ، نرى عمق علاقتهما وزيارتهما للمساجد سويا وكيف أنها تتفاءل به وتجده بركة أرسلها الله لهم ، يحب ليلى علوي كثيرا ونضحك على تعبيراته الطفولية التلقائية مع صعوبة نطقه حين يتغزل بجمالها بحب كبير.. واعتلاء صور "ميكي وميمي" بطفولة فوق صورتها في غرفته ، كما يعرض الفيلم جوانب حياة " أوني " المختلفة مع أخواته وأبنائهن ولعبه معهم ، فنرى من خلاله نموذجا جيدا لاندماج هذه الحالات في الحياة الاجتماعية باختلافها ليحيوا دون نقص أو عقد من معاملة الناس مع تثمين هذا الرضا الذي تشع به هذه الأم المحبة . رابع الأفلام فيلم " بوكيه ورد " وهو روائي إخراج جميلة السيد وكانت بطلته الكاتبة الراحلة " فتحية العسال " حيث تؤدي شخصية امرأة وحيدة لا يزورها أحد ..تتجول في بيتها بملابس البيت وتشاهد التليفزيون لتكتشف فجأة أن هذا اليوم عيد ميلادها فتفرح كثيرا وتتأمل التاريخ في " النتيجة " شاردة في الذكريات ليضرب جرس الباب فيصلها باقة " بوكيه " ورد تفرح بها وتتساءل عمن تذكرها وتبدأ في إعداد حلوى للزائر المنتظر وترتيب المنزل والاستعدادا للاستقبال ليرن جرس الباب من جديد ويأتي نفس الطفل يطلب " بوكيه الورد " حيث وصل لعنوان خطأ ، فتفاجأ بحزن وتعطيه من الحلوى التي أعدتها طالبة أن يقول لها " كل سنة وأنت طيبة " لتجلس حزينة تربت على قلبها بتسليم ، بالطبع الفيلم يتناول موضوع الوحدة وإهمال التواصل ، وقد قدم دون مبالغة أو افتعال وبتمثيل هادىء طبيعي من الكاتبة الراحلة ومن الطفل الصغير أيضا ، مع بعض التفاصيل الطبيعية الواقعية التي غذته مع سيادة الإضاءة الخافتة المناسبة للجو النفسي . وكان " هتفرج" الفيلم الخامس والأخير وهو روائي من إخراج أحمد توفيق ، ويدور حول طفل حائر بين أبوين منفصلين ونمطين مختلفين للتربية من كل منهما ، كلاهما يحبه لكن بأسلوبه فالأب أستاذ جامعة شديد قاس في معاملته صارم يمنع عنه كل وسائل الترفيه بينما الأم التي يذهب إليها يومين في الأسبوع ويكون في قمة الفرح بهما فيكره العودة للأب بعدها تدلله كثيرا وتعبر عن حبها وحنانها ويجد لديها البسمة والضحك وحرية حركته كطفل والالتقاء بأصدقائه ، الطفل دائم الانجذاب من شرفة بيت والدته إلى بائع العرقسوس وعربته الذي يكرر دائما بطريقة خاصة كلمة " هتفرج " ، فيرى العربة بعين أحلامه التي تصيغها الكاميرا في صورة توحي بالخيال وتبرز فيها ألوان العربة ، ونتتبع مع الفيلم تزايد مشكلة الطفل وتعقدها وزيادة كراهيته للذهاب لأبيه الذي يضربه لأقل سبب ولا يتيح له مجرد اللهو ليصبح صامتا لا ينفعل بشيء حتى عربة العرقسوس ، وتعبر أحد المشاهد عن المعنى بشكل جيد من خلال التركيز على كرة " البينج بونج " وتأرجحها حين يلعب شخصان اللعبة في الشارع ، وتمضي الأحداث حتى يضربه والده مرة بعنف شديد فيتسلل من بيت أبيه لبيت أمه التي يجد لديها عريسا فيفهم ويترك المنزل سائرا وسط السيارات وأضوائها . الأفلام المعروضة انحصرت جهتا إنتاجها ما بين الجامعة الفرنسية والمركز القومي للسينما وحدة الأفلام المستقلة ، وااتسمت كل العروض المقدمة التي كان مخرجوها من الشباب بعمق المعاني والبعد الإنساني وتنوع المواضيع مع قصر مدتها حيث لم يتعد أطولها 20 دقيقة ، أشارت بوضوح لوجود طاقة متحركة مبشرة تشق طريقا إلى النور .