حين تصنع فيلما تاريخيا تمنح نفسك جناحين يجولا في الزمن، وتمنح التاريخ قدمين فتبعثه من رقاده لتقرأه أمامك بذهن جديد واصلا الماضي بالحاضر كمن يصنع تاريخا جديدا.. أين ذهبت السينما التاريخية في مصر ؟ هل أصبحت كمومياء تحكي زمنا للفن كسر سلمه الصاعد وذهب ولن يعود؟ رغم القلة الشديدة لرصيد السينما المصرية من الأفلام التاريخية منذ بدايتها بشكل إجمالي بالنسبة لإجمالي إنتاج السينما المصرية من الأفلام الروائية، إلا أن هذه النسبة ذاتها كانت متركزة في فترة مبكرة من السينما المصرية تقلصت حتى تعتبر قد تلاشت تماما مع مرور الوقت فلا نجد من سنوات طويلة مضت فيلما تاريخيا بمعناه وإنتاجه الحقيقي، وإن استعرضنا هذه الفترة المبكرة سنلحظ هذا الفرق. كانت بداية الفيلم التاريخي في السينما المصرية مع فيلم "شجرة الدر" عام 1935 قصة جورجي زيدان وإخراج أحمد جلال وبطولة يوسف وهبي وماري كوين عن قصة حياة الملكة المصرية شجرة الدر زوجة الملك الصالح أيوب في زمن المماليك، لتأتي مجموعة أفلام لأم كلثوم عن قصص شخصيات في عصور قديمة كفيلم "وداد" 1936 للمخرج الألماني "فريتز كرامب" والذي يدور في زمن المماليك عن قصة حب بين التاجر الشاب "باهر" وجاريته جميلة الصوت "وداد"، ليعقبه فيلم "دنانير" 1940 لأم كلثوم أيضا وإخراج أحمد بدرخان عن البدوية جميلة الصوت "دنانير" مستعرضا نكبة البرامكة مع هارون الرشيد في العصر العباسي، ثم يأتي فيلم "سلامة" 1945 إخراج توجو مزراحي عن قصة حب بين رجل زاهد وجارية من مكة في العصر الأموي، وجاء المخرج إبراهيم لاما ليقدم مجموعة من الأفلام التاريخية مثل "صلاح الدين الأيوبي" 1963 و"كليوباترا" 1943 و"قيس وليلى" 1960. وفي عام 1952 قدم فيلم من نوع السيرة الذاتية عن الزعيم الراحل مصطفى كامل يحمل اسمه وهو من إخراج أحمد بدرخان، ثم جاءت الأفلام التاريخية الدينية مثل "ظهور الإسلام" 1951، وفي نفس العام وعن نفس الموضوع فيلم "انتصار الإسلام" إخراج أحمد الطوخي، لتتوالى سلسلة من الأفلام الدينية مثل "بلال مؤذن الرسول" 1953 و "خالد بن الوليد" 1958 إخراج حسين صدقي، ليجيء فيلم "جميلة" في نفس العام 1958 للمخرج يوسف شاهين وبطولة ماجدة عن قصة المناضلة الجزائرية جميلة بوحريد مع الاستعمار الفرنسي للجزائر، وجاء فيلم "فارس بني حمدان" 1966 للمخرج نيازي مصطفى عن شخصية تاريخية هي الشاعر والفارس العربي أبو فراس الحمداني من الدولة الحمدانية. وكان فيلم "رد قلبي" 1957 نوعا من تسجيل فترة ما قبل ثورة يوليو وما بعدها في قالب روائي حتى يعده البعض تاريخيا، ومن أفلام التراث القديم فيلم "عنترة بن شداد" الشاعر العربي القديم عام 1961 في قالب كوميدي، ثم يأتي فيلمان من أهم وأشهر الأفلام التاريخية في السينما المصرية هما فيلم "وا إسلاماه" 1962 والذي تقاسم فيه الإخراج كل من إنريكو بومبا وأندرو مارتون وشادي عبد السلام ثم فيلم "الناصر صلاح الدين" 1963 ليوسف شاهين يتناول فترة الحروب الصليبية ودور القائد صلاح الدين الأيوبي وهو من أعلى الأفلام إنتاجا وجودة. وهناك أفلام "رابعة العدوية" 1963 و"ألمظ وعبده الحامولي" و"سيد درويش" 1966 لتأتي السبعينات بفيلم "الفلاح الفصيح" 1970 عن إحدى قصص البرديات، والفيلمين الدينيين الشهيرين "فجر الإسلام" 1971 لصلاح أبو سيف و"الشيماء " 1972 عن حياة الشيماء أخت النبي لحسام الدين مصطفى، ليأتي يوسف شاهين في 1985 بفيلم "وداعا بونابرت" عن الحملة الفرنسية على مصر وآثارها الفكرية، لنجد نوعية الأفلام في الفترة القريبة منذ التسعينات تنحصر في أفلام تخلد نصر أكتوبر أو تتناول بعض وقائعه ومن أهمها فيلم المخرجة إنعام محمد علي "الطريق إلى إيلات" في 1993 أو أفلام السير الذاتية لشخصيات فنية أو سياسية قريبة العهد مثل أفلام "ناصر 56″ في 1996 و"كوكب الشرق" 1999 و"أيام السادات" 2001 و"حليم" 2005 لنصل في 2012 لأفلام ترصد بالكاد فترة زمنية محدودة وقريبة مثل ثورة يناير دون مستوى أو إنتاج فني لائق مثل فيلم "بعد الموقعة". ومن الاستعراض السابق نرى ببساطة كيف انحدر منحنى الإنتاج التاريخي وتضاءل عدديا لحد الانعدام، فما يوجد من قليل على الساحة يعد تاريخيا تجاوزا ولا ينتمي للنوعية المقصودة من الأفلام ذات الإنتاج الكبير والصدى اللائق والجودة الفنية العالية.. كما تقلصت فيها الفترات الزمنية وقاربت الحاضر قرب الأمس القريب. وفي الحقيقة إن الاهتمام بالتاريخ يعكس شغفا ثقافيا وحضاريا بالاستكشاف وإعادة الإحياء والنهوض، ووصل الماضي بالحاضر يوحي تراجعه بالعكس، وإن كنا نعلم أن إنتاجها شديد التكلفة ويعد مغامرة ويجب أن تدعمها الدولة.. لكن هل عدمت هذه الروح الشغفة المغامرة بعيدا عن الدولة؟ تصعب المقارنة ويتضح الفارق حين نرى كيف غزت السينما الأوروبية الفكر والعالم الحديث بأفلامها التاريخية التي تعيد بها تشكيل التاريخ نفسه أحيانا بما يتفق مع نظرتها أو مصلحتها أو يدعم اتجاه تروج له فتضع بصمتها على التاريخ نفسه وتخلد بالتاريخ تاريخها أو تصنعه، والقائمة في ذلك كبيرة مفتوحة تتناول مواضيع متنوعة وقديمة أحيانا قدم الإنسانية مثل فيلم "مليون سنة قبل الميلاد" وما شابهه ثم تأتي أفلام مثل "كليوباترا، الوصايا العشر، القلب الشجاع، طروادة، اسبرطة، اسبارتاكوس، آلام المسيح، نوح.. فهل نفيق ونوقظ التاريخ .. ليوقظنا معه ؟؟