مع بداية عام 2014 الجاري، شهدت منطقة شرق أوكرانيا الإرهاصات الأولى للمطالبة بالانفصال عن حكومة كييف، حيث اندلعت الشرارة الأولى لهذه المطالب في شبة جزيرة القرم مطلع شهر فبراير الماضي عبر مظاهرات خرج فيها الآلاف يطالبون بالانفصال عن أوكرانيا والانضمام إلى روسيا. تزايدت حدة المطالب في شبة جزيرة القرم وتعالت الأصوات هناك تنادي بالانفصال عن حكومة كييف عقب الاضطرابات السياسية التي شهدتها أوكرانيا التي انتهت بالاطاحة بالرئيس السابق"فيكتور يانوكوفيتش" وحكومته، حيث خرج على إثر ذلك آلاف المتظاهرين الذين ينتمي معظمهم إلى القومية الروسية، اعتراضًا على الأحداث التي وقعت في العاصمة الأوكرانية بين قوات الأمن والمتظاهرين والتي خلفت عشرات القتلى ومئات المصابين، التظاهرات التي خرجت طالبت بالمزيد من التكامل مع روسيا، بالإضافة إلى حكم ذاتي موسع أو استقلال للقرم عن أوكرانيا، حتى انتهى الأمر هناك بموافقة برلمان القرم على إجراء استفتاء حول الانضمام إلى روسيا. وفي ظل هذه المساعي الروسية لضم شبة جزيرة القرم، تزايدت الانتقادات الغربية الرافضة لضم "القرم" لروسيا وانفصالها عن أوكرانيا، حيث حذر وزير الخارجية الألماني "فرانك-فالتر شتاينماير" روسيا من ضم شبه جزيرة القرم إليها، وقال "بالتأكيد لن يكون الضم مجرد خطوة مدانة بشدة من الاتحاد الأوروبي، المجتمع الدولي والدول المجاورة لروسيا سيكون رد فعلها غاضبا"، كما طالب الوزير الألماني موسكو مجددا بعدم عرقلة تشكيل مجموعة اتصال دولية بشأن القرم. لم تقتصر الانتقادات الغربية على ألمانيا فقط، بل شملت دول وسط أوروبا وشمالها ودول البلطيق الذين أدانوا ما أسموه بالتدخل العسكري الروسي في أوكرانيا، والاستفتاء الذي جرى في منطقة القرم حول الانضمام لروسيا، وجاء في بيان مشترك لهم "وزراء خارجية الدول الاسكندنافية ودول البلطيق ودول مجموعة فيسغراد أنهم يدينوا ما أسموه بالاعتداء على سيادة أوكرانيا ووحدة أراضيها كما أدانوا أيضا الاستفتاء غير الشرعي بشأن ضم القرم إلى روسيا". اعتبر الاتحاد الأوروبي قرار برلمان القرم إجراء استفتاء بأنه قرار "غير شرعي"، كما أعلن رئيس المجلس الأوروبي "هرمان فان رومبوي" أنه "يخالف الدستور"، من جانبه اعتبر الرئيس الأمريكي "باراك أوباما" أن هذا القرار غير شرعي ويمثل انتهاكا للقانون الدولي وللسيادة الأوكرانية. وفي استفتاء تابعته عواصم العالم وكشف عمق الخلافات بين روسيا والغرب، صوت سكان القرم في 16 مارس من العام الجاري بكثافة على الانفصال عن أوكرانيا والانضمام إلى روسيا، حيث توجه إلى مراكز الاقتراع في شبه جزيرة القرم مليون وثمانمائة ألف ناخب، لتخرج النتيجة المتوقعة بأن 96.77 بالمائة من السكان وافقوا على الانضمام إلى روسيا، وأعلن برلمان القرم في اليوم التالي استقلاله عن أوكرانيا، ووافق الرئيس الروسي "فلاديمير بوتين" على مشروع معاهدة لانضمام جمهورية القرم إلى روسيا الاتحادية. قرر الغرب الرد على ضم روسيا شبة جزيرة القرم من خلال فرض عقوبات كانت قد هدد بها قبل الاستفتاء، وفي رد فعل سريع دعا الرئيس الأمريكي "باراك أوباما" إلى اجتماع لمجموعة الدول السبع الكبار "جي 7″، لبحث ما وصفه بالتصعيد الروسي في القرم، وسبق هذه الخطوة قيام الولاياتالمتحدة والاتحاد الأوروبي بفرض عقوبات على 21 من المسئولين في روسيا والقرم، بعد ساعات من إعلان استقلال القرم والانضمام إلى روسيا، وتشمل العقوبات منعهم من دخول دول الاتحاد الأوروبي وتجميد ممتلكاتهم المتواجدة في أراضي الدول الأعضاء بالاتحاد الأوروبي والبالغ عددهم 28 دولة، وقال الاتحاد الأوروبي إن هؤلاء المسئولين لعبوا دورا رئيسيا في الاستفتاء الذي تم في القرم. وردا على العقوبات الغربية، وفي جلسة خاصة لمجلس النواب الروسي "الدوما" تبنى الأعضاء بالإجماع بيانا ساخرا، يطالب واشنطن والاتحاد الأوروبي بأن تمتد العقوبات لتشمل عدة مئات آخرين من المسئولين الروس، في مظهر واضح من مظاهر الحرب الباردة التي اندلعت بين روسيا والغرب منذ استفتاء القرم. استفتاء القرم واستقلالها عن أوكرانيا، أيقظ المشاعر الانفصالية للناطقين بالروسية داخل منطقة شرق أوكرانيا، حيث اشتعلت مظاهرات في عدة مقاطعات شرق البلاد منها "دونيتسك" و"خاركوف" و"لوغانسك" و"أوديسا" و"نيكلايفا"، وطالب مواطني هذه المقاطعات بالانفصال عن أوكرانيا ومنحها الحكم الذاتي، وإجراء استفتاء على ذلك الأمر لتسير على نفس خطى "شبة جزيرة القرم". وخلال الشهور القليلة الماضية اندلعت مواجهات في المقاطعات الواقعة شرق أوكرانيا خلال التظاهرات التي تطالب بالاستقلال عن حكومة كييف بين قوات الأمن الأوكرانية والانفصاليين الموالين لروسيا، وصلت إلى أن أعلن محتجون في مقاطعة "دونيتسك" الأوكرانية عن إنشاء "جمهورية دونيتسك الشعبية"، وأقروا أيضا ما يسمى ب "إعلان السيادة لجمهوريتهم الوليدة". وجاء في هذا الإعلان "أن مجلس السوفييت الأعلى لدونيتسك هو الجهة الوحيدة المخولة باتخاذ القرارات المتعلقة بتطوير جمهورية دونيتسك الشعبية والتعاون مع الدول الأخرى وإجراء الاستفتاءات". في الوقت نفسه اشتعلت حرب الاتهامات بين كل من أوكرانياوروسياوأمريكا، حيث اتهمت روسياأمريكا بالسعي إلى تأجيج الأوضاع في أوكرانيا واستمرار المواجهات المسلحة هناك، والعمل علي عرقله إصدار مجلس الأمن الدولي بيان حول إرسال المساعدات الإنسانية للانفصاليين في أوكرانيا. من ناحية أمريكا فقد اتهمت "فيكتوريا نولاند" مساعدة وزير الخارجية الأمريكية، روسيا بأنها تؤجج الأوضاع شرق أوكرانيا، على خلاف التعهدات التي قطعتها بتخفيف حدة التوتر في تلك المنطقة، معربة عن "قلقها البالغ حيال تصاعد حدة التوتر في مدن شرق أوكرانيا"، كما اتهم الرئيس الأوكراني "بيترو بوروشينكو" روسيا بشن "عدوان مباشر ومفتوح على بلاده"، وقال "بوروشينكو" إن "العدوان الروسي أحدث تغييراً جوهرياً في التوازن بساحة القتال لغير صالح كييف في الحرب التي تخوضها ضد الانفصاليين الموالين لروسيا في شرق أوكرانيا". وفي ظل الوضع الراهن الذي تشهده هذه المقاطعات شرق البلاد، سعى بعض الوسطاء الدوليين لمحاولة تقريب وجهات النظر بين موسكو وكييف لإنهاء الأزمة التي تشهدها أوكرانيا، إلا أنه ما زالت حتى الآن تتزايد احتمالات انضمام المزيد من مقاطعات شرق أوكرانيا إلى روسيا وانفصالها عن أوكرانيا، الأمر الذي سيعيد رسم الخريطة الاستراتيجية في منطقة شرق أوروبا بأكملها، لاسيما وأن كييف تُعد ثاني أكبر دول أوروبا الشرقية.