لا تبُح بارتباكك.. لا تقل علانية جملة (مش عارف).. إن قلتها في المقاهي أو الاجتماعات السياسية، فستضعك مباشرة في موقع المستمع الصامت، الذي لا يحق له الكلام.. ويحق له فقط الاستماع إلي كافة التحليلات، والاستنتاجات، والمعلومات.. حتى وإن كانت من أكثرها استحالة وغرابة. وإن بحت بارتباكك في مقال، فستفقد بعض القراء – هم قليلون علي أية حال – ممن ينتظرون منك اليقين وتقديم الإجابات. هذه هي النصيحة التي ترفرف في الجو، حول رؤوس بعضنا مؤخرا، تصدمك وتلجمك حين تواجه حالة يقينية، لا تنسجم مع حالة القلق، والارتباك، والتوتر السائدة، والمبررة، أي حالة الثورة ذاتها. نعم أنا مرتبك.. وهو ما يطمئنني بعض الشيء، فأن تكون يقينيا في هذه المرحلة الثورية، تجاه تفاصيل المواقف والتحليلات، يتناقض فيما أعتقد مع حالة الثورة ذاتها. لا أقصد بالارتباك هنا حالة الذعر وربما “الهوس” تجاه الانتصارات البرلمانية – وليس السياسية – للإخوان والسلفيين. حالة الارتباك التي أقصدها هي الحالة التي تفاقمت بعد يوم 19 نوفمبر بدرجات كبيرة. كانت متواجدة قبل هذا التاريخ، وكانت متوازية مع حالة من عدم اليقين الطبيعية، كوننا نواجه موجة ثورية سوف تطول، ستشهد انعطافات كبيرة، لم نعتدها أصلا، وليس من بيننا من يقدر علي الادعاء بأن لديه خبرة التعامل معها. بعد 19 نوفمبر تتصاعد التساؤلات وتختفي الإجابات، أكثر مما قبل. من الممكن أن تكون هذه الحالة صحية، بمعني ما، إن اقترنت بتشكيك في كل الإجابات الجاهزة، إن ساعدتنا علي التفكير والإبداع الثوري الحر، بكل أشكالهما. لكن الارتباك في أحد جوانبه، هو عبء إضافي، علينا مواجهته كل يوم، بالتوازي مع المعارك اليومية التي تُفرض علينا. الطرف الآخر – المجلس العسكري والنظام وحلفاءهما – يحاولون إجبارك علي التوهان في تفاصيل التحليلات، الاستنتاجات، الإشاعات، التسريبات، والمعلومات المشوشة. أنت تحاول أن تفهم وأن تعي الإمكانات المتاحة أمامك في المعركة السياسية لإسقاط النظام الحالي، وهم يغرقونك في التفاصيل والشائعات. علي سبيل المثال: فيما يخص العملية الانتخابية، حدودها، وإمكانات الاستفادة الثورية منها، فقد حدثت داخل صفوف الثورة انقسامات حادة ما بين المقاطعين، والمشاركين، والراغبين في الانسحاب بعد مجازر نوفمبر، أو قبلها.. بعد مذبحة ماسبيرو. أعتقد أنه ليس إيجابيا أن يتملك أحد الأطراف اليقين الكامل تجاه هذا الموقف أو ذاك، لكن الارتباك يتكامل حين تتوه بين مبررات كل الأطراف وتناقضاتها. سواء كانت منسحبة، أو مشاركة، أو مقاطعة. أضف إلي هذا المستوي، مستوي آخر، وأكثر خطورة، وهو الخاص بالمعادلات الجبرية التي تفاجئك حين تتأمل ما هو خارج صفوفك.. حين تتأمل صفوف عدوك.. الذي يحتمي بالأسوار العالية ولا تراه بالعين المجردة. فتري تفاصيل غير مفهومة: السلطة تضرب المتظاهرين يوم 19 نوفمبر فتتحول لموجة جديدة من الثورة.. هل كان هذا خطأ أم كان فعلا مقصودا؟ لماذا يخلي الجيش والشرطة الميدان يوم 20 نوفمبر، لينسحبا منه بعدها بدقائق، تاركينه للمتظاهرين؟ لماذا تركوا البعض ليقوموا بتصوير عمليات تنكيلهم بالموتي؟ من له المصلحة في أن يكون الميدان ممتلئا وساخنا قبل الانتخابات بأيام؟ لماذا تصر السلطة علي إخراج العملية الانتخابية وكأنها نزيهة.. بينما تقوم هي ذاتها بتسريب المعلومات حول التجاوزات والتزوير وغياب المصداقية، بما يصل لمستوي الفضائح؟ هل من المقصود أن يتم تشكيل هذه اللجنة المشرفة علي الانتخابات بهذا الشكل المهترئ.. اللجنة التي أقل ما يقال عن أدائها بأنه مثير للاشمئزاز؟ هل المجلس العسكري مرتبك أم متماسك؟ هل خطواته محسوبة أم أنها عشوائية؟ هل هو منقسم بين جناحين أو أكثر؟ أين هو عمر سليمان؟ هل اكتفي بهزيمته مع مبارك وانزوي؟ ما هو الدور الحالي لأمن الدولة والمخابرات العامة والمخابرات العسكرية؟ هل رغب المجلس العسكري أن تُهزم الشرطة من جديد أمام المتظاهرين في محمد محمود؟ لماذا تم إيقاف المعركة بهذا الجدار الذي يقسم الشارع؟ هل يغامر الجنرالات بهيبة سلطتهم، وبأن يهتف بإعدامهم في الشارع.. لمجرد كسر الشرطة مرة أخري؟ لماذا تم إخراج وثيقة السلمي؟ لماذا تم إلغاؤها ثم إعادة إنتاجها في شكل المجلس الاستشاري الجديد؟ ما هي مبررات البعض ممن انتموا للثورة من قبل، كي ينتموا الآن لأحد الأجهزة – المجلس الاستشاري – التي تستهدف إجهاض الثورة ذاتها؟ لماذا لم تسع القوي السياسية لأن ينتصر الميدان في مقابل المجلس العسكري؟ ما ثمن مواقفها.. وكيف ستتم عملية إخراج الفاتورة ودفع الثمن السياسي؟ ما الذي حدث في الكواليس بين المرشحين الثلاثة للرئاسة فيما يخص حكومة الإنقاذ؟ ما هو نوع الشرعية التي تقوم السلطة الآن بترتيبها وصنعها؟ هل سيحدث صدام مابين الإخوان والمجلس العسكري؟ ماذا عن السلفيين وكيف يمكن تلخيص مواقف الجنرالات تجاههم؟ ماذا سيحدث في الأيام والأسابيع القادمة؟ هل لدينا معلومات حقيقية عن تناقضات داخل النظام؟ من أين أتت هذه المعلومات وماهي مصداقيتها؟ هل علينا العمل من أجل تعميق هذه التناقضات؟ هل لدينا القدرة أصلا علي تعميقها؟ إلخ. عزيزي القارئ هل أصبت بالارتباك الآن؟ هذه مجرد عينة من ضمن الآلاف من التساؤلات التي تفرض عليك، كجزء من العقاب المتمثل في أكوام التحليلات والاستنتاجات، والتي في أغلبها، ترسخ فكرة أن السياسة ترتبط أساسا بالمؤامرة.. بالكواليس.. بالروايات البوليسية وأفلام التجسس الأمريكية. والأهم أنها ستجعلك تنسي أن هناك الشارع، وأن الشارع قد أثبت منذ يناير أنه الكارت الحاسم. ستنسي هذه الحقيقة حين يواجهك الواثقون علي شاشات الفضائيات، قائلين أنهم قادوا الثورة، بينما أنت لا تعرفهم.. وتعلم يقينا في ذات الوقت أن مواهبك لا ترقي لمواهب “تختخ” بطل المغامرين الخمسة، أو مواهب “رقم صفر الذي لا يعرفه أحد” في الشياطين الثلاثة عشر. أنا مثل أغلبنا، ليس لدي إجابات واضحة علي أغلب هذه التساؤلات، ولا أفهم، حاليا، الكثير من التفاصيل التي تحدث، والتي نري فقط بعض انعكاساتها. لكن.. ربما أستطيع القول، باستخفاف، إنها لم تعد تعنيني. لا يعنينا ما يحدث في هذه الكواليس في حالة اعتقادنا بأننا نستطيع أن ننتصر. نستطيع وفقط.. كإمكانية وليس كيقين.. فلا توجد أي ضمانة لأي شئ. قدراتنا تواجه قدرات عدونا. إن عرفنا عن كواليسه معلومات محددة وحقائق، فسوف تفيدنا، ونستطيع وقتها أن نوجعه أكثر. وإن لم نعرف، مثلما هو حاصل الآن، فلنعد للتبسيط الضروري بعض الشئ. التبسيط الواعي بأن عدونا الأساسي هو المجلس العسكري، القوي السياسية، والأحزاب، والمئات من محترفي السياسة والإعلام، ممن لم يقفوا مع الثوار والشباب في الشوارع، ويحاولون أن يجدوا لهم مكانا داخل النظام الذي لم يسقط بعد. بغض النظر عن ألوانهم المتعددة، سواء كانت ألوان ليبرالية أو كانت من تنويعات الفاشية الدينية. حالة الارتباك هي حالة الثورة.. هي محاولة للتعامل مع حالة الصخب السائدة في المجتمع، الذى كان قبل شهور ساكنا، لا يحدث به الكثير، بينما اليوم يحدث به جديد كل ساعة، وتتغير موازينه يوميا. رغم الارتباك والتوتر.. تتضح المعركة بدرجات أكبر، في مستواها العام، يتبلور أكثر فأكثر العداء بين القوي والقطاعات التي تريد استكمال ثورتها وتريد سحب السياسة، كعملية صراع، إلي الشارع، إلي النور، وإلي مساحات الصراع الإجتماعي المفتوح بكل أشكاله، وفي كل المواقع المتاحة.. وبين من يريدون إعادة اللعبة السياسية إلي الغرف المغلقة، قليلة الإضاءة، حتي يستطيعوا استكمال سيطرتهم علي هذا المجتمع، وسرقته.. و”تلصيم” الشرخ الذي سببته الثورة في نظامهم السياسي. بهذا المنطق ربما يكون اليقين الوحيد هنا، هو أن إمكانية الخروج الآمن قد حرقت نهائيا للخاسر.. أيا كان الطرف الخاسر. باسل رمسيس [email protected]