يكمن السبب المباشر في رفض الإدارة الأميركية لما حدث في مصر العام الماضي، من الإطاحة بنظام الإخوان المسلمون، في أن الثلاثين من يونيو عطلت المخطط الأميركي لضرب سوريا العام الماضي، بالحد الأدنى على المستوى الإقليمي. ففي أخر أيام الرئيس المعزول محمد مرسي أيدت الجماعة حرباً أميركية بتحالف غربي على سوريا لإسقاط نظام الأسد، وقبل ثمانية عشر يوم فقط من اعتقاله أعلن مرسي وسط حشد من الإسلاميين في مؤتمر "نُصرة سوريا" قطع العلاقات مع الدولة السورية و"فتح باب الجهاد في سوريا"، وهو ما وفر غطاء عربي-إسلامي لواشنطن من أكبر دولة عربية لضرب سوريا. وهو ما كان يعني أيضاً حال تنفيذ هذا السيناريو تتويج محور (الإخوان-الدوحة-أنقرة) كحلفاء رسميين وحيدين لأميركا في المنطقة، وذلك يرتد اقليميا على اعادة ترتيب خارطة النفوذ السياسي في الخليج والمنطقة على حساب السعودية، التي منذ نشأتها تعد حليفة الولاياتالمتحدة الأولى في المنطقة، والتي عانت خلال العقد المنصرم من منافسة قطرية لزحزحتها من هذا الموقع..خليجياً على الأقل. لكن ما حدث لنظام الإخوان بعد الثلاثين من يونيو لم يؤدي فقط لتعرية الجهود الأميركية التي أرادت قبل ما يزيد عن عام إسباغ صفة الشرعية الدولية والعربية لضرب سوريا على غرار ما حدث في ليبيا، ولكن إلى إفقاد حليف يتم إعداده وتمهيد الأرض له منذ سنوات من قبل إدارة أوباما وتم الدفع به وتدعيمه إبان "الربيع العربي" لتولى زمام الحكم في مصر وتونس وليبيا، لتحقيق أهداف عدة ثبت خسارة رهان الإدارة الأميركية على جماعة الإخوان و "الإسلاميين المعتدلين" في تنفيذها. وهو ما يفسر إلى حد كبير تحامل الإدارة الأميركية على ما حدث في الثلاثين من يونيو؛ فنهاية مشروع "الهيمنة الأميركية الناعمة" على دول "الربيع العربي" بدأت نهايته في القاهرة. سريعاً إلى الأمام، نرى بالأمس أن وزير الخارجية الأميركية، جون كيري، يمتدح النظام المصري الجديد، ويثني على جهود مصر في حربها ضد الإرهاب، ويصفها ب"الجبهة الأمامية" في هذه الحرب، ويشدد على ضرورة مشاركة القاهرة في التحالف الدولي العسكري الذي تقوده الولاياتالمتحدة والسعودية ضد كل من "الدولة الإسلامية" والجمهورية العربية السورية. وقبل ذلك التغير في الموقف الأميركي تجاه مصر، تنشر الخارجية الأميركية تقارير عن دعم دول خليجية وعلى رأسها قطر للجماعات الإرهابية في سوريا. وذلك عشية القرار 2170 الصادر عن مجلس الأمن والذي يجرم تحت البند السابع دعم الجماعات الإرهابية (النًصرة، وداعش). ناهيك عن وسائل الإعلام الأميركية التي شددت خطابها تجاه الدوحة والمؤسسات الإعلامية والبحثية الذي يرعاها النظام القطري، حيث تم وصفها ب"رعاية الإرهاب وتسويقه". وذلك في إطار ضغوط الإدارة الأميركية مؤخراً على قطر والكويت والسعودية لتضيق القنوات المالية الرسمية وغير الرسمية التي تدعم التنظيمات الإرهابية على امتداد خارطة الشرق الأوسط. لم يتغير الموقف الأميركي تجاه الدوحة في جوهره، فهي الحليف المُطيع، التي وفرت قناة اتصال وتفاوض مع الجماعات الإرهابية من افغانستان وحتى سورياولبنان، بالإضافة إلى ضلوعها بالتحكم في الأحزاب الميلشياوية في ليبيا، ولكن ظاهرياً اضطرت الإدارة الأميركية إلى الاجراءات السابقة كرد على انتقادات داخلية وجهت لأوباما بأن حلفاؤه في الخليج يمولون الإرهاب. أما الذي تغير للنقيض، هو الموقف الأميركي من النظام الجديد في القاهرة؛ وذلك لأسباب عدة منها اكتساب النظام شرعيته محلياً حتى قبل الانتخابات الرئاسية، وإقليمياً بالدعم السعودي الإماراتي، وتقبل العديد من الدول الغربية للواقع السياسي الجديد في مصر، كذلك توسع العلاقات مع روسيا، والأهم -وللمرة الثانية في أقل من عامين- تحتاج الولاياتالمتحدة إلى مواءمة مصرية تدعمها وحلفائها في إعادة هيمنتها العسكرية إلى المنطقة، ولكن هذه المرة من بوابة محاربة تنظيم "الدولة الإسلامية". ما يتضح للمتابعين لتحولات الموقف الأميركي تجاه القاهرة، أن واشنطن مقابل التوافق المصري سوف تُجبر قطر على تنفيذ شروط النظام المصري الجديد، والتي من ضمنها إبعاد قيادات الإخوان عن الدوحة، وتغيير الخطاب الإعلامي القطري تجاه مصر. وهو ما يفسر قرار الدوحة بطرد عدد من قيادات ورموز الإخوان عشية زيارة كيري إلى القاهرة، والتي ألتقى فيها الرئيس عبدالفتاح السيسي لإقناعه بضرورة مشاركة مصر عسكرياً في الحرب المُقبلة. إلى ذلك تتمسك القاهرة بموقفها الإستراتيجي -حتى الأن- تجاه سوريا؛ وهو أنه لا لتقسيم سوريا ولا تسليمها للإسلاميين، وهو الموقف الذي مثله قبل ما يزيد عن عام، قلب الدولة المصرية الحديثة: المؤسسة العسكرية، التي اتخذت قراراها الأهم بالانحياز للشعب ضد الإخوان بعد مؤتمر "نُصرة سوريا"، لما كان له من مساس النظام الإخواني بالعقيدة العسكرية المصرية، التي تعتبر سوريا أول جبهات دفاع محيطها الاستراتيجي. وأيضاً تتمسك القاهرة بسياسة عدم التدخل العسكري الخارجي وإرسال قوات مصرية إلى الخارج، وهو ما كان مضمون رد المسئولين المصريين على المطالب الأميركية الأخيرة. وما يدعم موقف مصر على المستوى القريب هو أن قطر مضطرة بالأساس إلى اتخاذ خطوة طرد الإخوان وتغير سياستها الإعلامية المؤيدة لهم، ضمن خطوات اخرى أجبرت على البدء في تنفيذها بسبب الضغوط الخليجية عليها، والتي وصلت إلى حد القطيعة، وعادت العلاقات مرة أخرى أواخر الشهر المنصرم، على أساس مراقبة تنفيذ التزامات الدوحة تجاه جيرانها. لكن على الرغم من ارتكان القاهرة إلى حلفاءها في الخليج في الضغط على الدوحة لتنفيذ مطالبها، إلا أن ذلك لا ينفي أن الأساس في إعادة توجيه أولويات المنطقة هو البوصلة الأميركية؛ التي اتجهت -عن رغبة- إلى تضمين "الحرب على النظام السوري" في حربها ضد "الدولة الإسلامية" بإيعاز ورغبة سعودية، واستبعادها ل"المعارضة المسلحة المعتدلة"-وهو التعريف الهلامي- في سوريا من قائمة الأعداء، وهو ما يعني أن هناك جولة أخرى من نقاشات وتفاهمات بين دول "محور الاعتدال الجديد" حول المسألة السابقة، ويعني أيضاً أن الولاياتالمتحدة لا تستطيع التخلي عن قطر مقابل موافقة القاهرة الكاملة على استراتيجية أوباما الجديدة، حيث لقطر موقع هام فيها، وفوائد عده بالنسبة لواشنطن، سواء لما للدوحة من نفوذ على الجماعات الإرهابية في سوريا أو العراق أو لبنان وحتى ليبيا. لذلك من الممكن أن تحاول الولاياتالمتحدة استخدام الورقة القطرية –حتى مع الضغوط الخليجية على قطر- كعامل ضغط على القاهرة لإقناعها بالمشاركة عسكرياً في الحرب الوشيكة مقابل إنهاء "صداع الإخوان" بالنسبة للقاهرة، وهو أمر هام جداً بالنسبة للنظام المصري الجديد. بشكل عام، تعد الفترة القصيرة القادمة فرصة سياسية جيدة لمصر ونظام السيسي في إيجاد دور إقليمي يليق بوزن وتأثير مصر، سواء كان ذلك داخل "محور الاعتدال" مع تباين الرؤية بين دولهِ إزاء الموقف من النظام السوري، أو كيفية القضاء على تهديد "داعش وأخواتها" وكل مظاهر الإسلام السياسي في المنطقة. أو استغلال الصراع العالمي بين روسيا وإيران من جهة وبين الولاياتالمتحدة والسعودية من جهة أخرى تجاه القضايا الرئيسية السابقة الذكر، للعب دور سياسي مستقل غير مُثقل بالامتنان للدعم المالي من السعودية والإمارات، بوصلته الأولى والأخيرة مصلحة مصر، والتي قد تتوافق تارة مع مصالح الدول سابقة الذكر، وتتعارض تارة أخرى.