كتب: عبد الوهاب حسن تحول حديث "يبعث الله لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة، من يجدد لها أمر دينها" سنن أبي داود، من ضامن لشباب الدين على يد المجددين، إلى أداة في الصراعات السياسية والاجتماعية، وذلك بعد أن قصرت كل فرقة وصف المجدد على أتباعها، نافية على من يخالفها الرأي إمكانية الارتقاء لهذه المرتبة، فباتت الأيديولوجيا هي الحاكمة لتفسير الحديث، فالكل يلوي عنق الحديث لخدمة طائفته أو فرقته أو مذهبه، صار المجدد السلفي علي سبيل المثال سواء التيمي – نسبة لابن تيمية – أو الأشعري هو الحافظ المتقن للعديد من العلوم التي أسموها علوم الألة، من نحو ولغة وبلاغة وبعلوم الشريعة من تفسير وحديث وأصول فقه وعلوم قرآن ومصطلح حديث وسيرة، إضافة لإلمامه بعلمي المنطق وعلم الكلام، وذلك وفقا لمعتقداتهم الفكرية، وقد وضعوا معايير مختلفة لتقييم المجدد، تدور كلها حول تجلية الإسلام مما يعلق به من الانحرافات والشوائب الدخيلة على مفاهيمه الأصلية، وإعادته إلى منابعه الأولى، الكتاب والسنة، بحسب رؤيتهم، ومن لا يسلك هذا السبيل لا يعد مجددا البتة، بحسب مقاييسهم، فقد فصّل التيميين والأشعريين صفة التجديد وفقا لتوجهاتهم، واتفقوا على أن أول المجددين هو عمر بن عبد العزيز برشادة حكمه. وكان للشيعة أيضا مفهومهم للمجدد، لتتعدد الأطراف التي سعت لقصر هذه الصفة على علمائها ودعاتها، وهو ما حمل الحافظ ابن كثير على الرد على دعاوى هذه الفرق، بكتابه في كشف الخفاء (وقد ادعى كل قومٍ في إمامهم أنه المراد بهذا الحديث، والظاهر – والله أعلم – أنه يعمُّ حملةَ العلمِ من كل طائفة وكل صنف من أصناف العلماء: من مفسرين , ومحدثين , وفقهاء , ونحاة و ولغويين , إلى غير ذلك من الأصناف). لقد بذل العديد من العلماء جهدا كبيرا للخروج بمصطلح المجدد إلى بر الأمان بعيدا عن مؤثرات الأيديولوجيا، يقول ابن الأثير في جامع الأصول (لا يلزم أن يكون المبعوث على رأس المائة رجلاً واحداً، وإنما قد يكون واحداً وقد يكون أكثر منه، وكذلك لا يلزم منه أن يكون أراد بالمبعوث: الفقهاءَ خاصة – كما ذهب إليه بعض العلماء – فإنّ انتفاع الأمة بغيرهم أيضاً كثير مثل: أولي الأمر، وأصحاب الحديث ، والقراء والوعاظ، وأصحاب الطبقات من الزهاد؛ فإن كل قومٍ ينفعون بفن لا ينفع به الآخر؛ إذ الأصل في حفظ الدين حفظ قانون السياسة، وبث العدل والتناصف الذي به تحقن الدماء، ويُتمكن من إقامة قوانين الشرع، وهذا وظيفة أولي الأمر. وكذلك أصحاب الحديث ينفعون بضبط الأحاديث التي هي أدلة الشرع، والقرّاء ينفعون بحفظ القراءات وضبط الروايات، والزهاد ينفعون بالمواعظ والحث على لزوم التقوى والزهد في الدنيا. فكل واحد ينفع بغير ما ينفع به الآخر .. فإذا تحمل تأويل الحديث على هذا الوجه كان أولى، وأبعد من التهمة). وفي هذا الخصوص أورد السيوطي في فيض القدير قائمة لمجددي القرون الأولى مشيرا إلى أنه (كان في المائة الأولى عمر بن عبد العزيز، والثانية الشافعي. والثالثة الأشعري أو ابن شريح. والرابعة الإسفراييني أو الصعلوكي أو الباقلاني. والخامسة حجة الإسلام الغزالي. والسادسة الإمام الرازي أو النووي. ولا مانع من الجمع فقد يكون المجدد أكثر من واحد. ففي الثالثة من أولي الأمر المقتدر، ومن المحدثين النسائي. وفي الرابعة من أولي الأمر القادر. ومن الفقهاء والخوارزمي الحنفي، وهكذا يقال في بقية القرون). لقد أجمع العلماء على قبول عمر بن عبد العزيز كمجدد القرن الأول فهو من أعاد الخلافة إلى رشدها، بعد أزمات سياسية طاحنة عاشت في خضمها الأمة بعد استشهاد الخليفة الرابع، علي بن أبي طالب 40ه، وانقسمت إلى طوائف عدة إلى سنة وشيعة وخوارج، لتتقاتل فيما بينها، أما مجدد القرن الثاني فهو الشافعي الذي اتخذ مذهبه مكانا وسطا بين مدرستين فقهيتين كانتا الأبرز وقتئذ، الأولى هي مدرسة الرأي الحنفية، والثانية مدرسة الحديث المالكية فظهر الشافعي بمنهج فقهي هو مزيج من فقه الحجاز، والذي يعرف بمدرسة الحديث، وفقه العراق، أي مدرسة الرأي، كما قام بتدوين جميع الأصول التي اعتمد عليها في فقهه برسالته الأصولية في كتابه « الرسالة» هذا الكتاب الذي يعد من أهم الكتب في أصول الفقه. وفي القرن الثالث حينما تطرف كل من المعتزلة والمحدثين في خلافهم العقدي، فبالغ المعتزلة في تصوير مكانة العقل، بجعله ميزانا لصحة النقل، ونفيهم بعض صفات الله، وبالغ المحدثون والفقهاء في إثبات هذه الصفات، حتى ابتدعوا التجسيم والتشبيه، في وسط هذه الأجواء من التطرف الذي مزق الأمة كل ممزق، وفرّق شملها، ظهر الإمام أبو الحسن الأشعري، فاتخذ طريقا وسطا بين الفريقين فأثبت العقائد الدينية بالعقل غير بعيد عن النص، ليخط مسارا جديدا في الفكر الإسلامي السني، حين أعاد تنظيم علم الكلام على قاعدة أن النقل هو الأساس والعقل خادم له، ووسيلة لإثباته والبرهان على صحته، فعالج نفس المشاكل المثارة بين المدرستين بطريقة بدت وسطية حين شرع في تأويل آيات الصفات فأول وجه الله الوارد في كثير من النصوص بقدرته، وعينه تعالى برؤيته، واطلاعه عليها، وليس بالعين الحسية، كما سبق عن غلاة الحنابلة فجمع الله به كلمة المسلمين وقمع المعاندين وكسر تطرّفهم، و ملأ العالم بكتبه وكتب أصحابه في السنّة، ودان لمذهبه الأشعري "أهل البسيطة إلى أقصى بلاد أفريقية" كما يقول الكوثري. إن عددا من الأئمة الذين أبعدوا أنفسهم عن الخوض في صراعات الفرق حول هذا المفهوم "المجدد"، وما يسبقه من تحديدات وشروط تفرضها الأيديولوجيا، كجزء من السجال العقائدي والمذهبي؛ وسعوا المساحة التي يغطيها، فشمل مجالات مختلفة هي: السياسة والفقه والعقيدة، ليوضحوا أن التجديد ليس حكرا على صاحب مذهب أو رأس فرقة، وأنه صفة لمن يستطيع الرد على أسئلة الواقع وتطورات الحياة، وحماية الدين من التشكيك أو من يحاول جعله أداة تفريق وتمزيق، فحينما يختلف الناس وتضطرب الحياة في أي مجال، وتبدو الشُقة بعيدة بين الدنيا والدين، يكون الجامع بينهما هو المجدد، والذي لا يمكن أن يكون بعيدا عن التراث بأي حال، فالمجدد ينطلق من التراث وإليه يعود، فهل من مجدد؟!