اشتهر بأنه سيد القرن السادس عشر، كما اقترن اسمه بالمقالات، وكرس لها حياته، ليصبح منسوبًا إلى المفكريين ذوي الكتاب الواحد، درس الكثير من الأدب اليوناني واللاتيني القديم، وشاء أن يفكر مشاهير زمانه في النسج على منوال بعض أبطال اليونان وروما في حياتهم، وكان من رجال حاشية الملك شارل التاسع ملك فرنسا ردحاً من الزمن. ميشيل دي مونتين، الذي تمر ذكرى وفاته اليوم، أحد أكثر الكتاب الفرنسيين تأثيرا في عصر النهضة الفرنسي، عرف برائد المقالة الحديثة في أوروبا، وكان يقلد اليونانين والكلاسيكيين في عادتهم في رصف الحكم والأمثال في ثوب مسجوع، وتأثر كثيراً بكتابات أرسطو، ولكنه تفرد بأسلوبه المرسل، وظهرت شخصيته بوضوح. ولد ميشيل دي مونتين عام 1533، وأبحر في الماضي البعيد ورست سفنه علي شواطيء فلاسفة الإغريق، وأختار من بينهم تيرونس بربري الأصل. كان تيرونس عبد حينما كانت أثينا لا تعرف الاستحاء، وكانت طبقاتها من الفلاسفة والجنود والعبيد. نبهت كتاباته علي عبقريته الفذة فأعتقه سيده . أما مقولته الخالدة كانت علي لسان أحد أشخاص مسرحه، وهي "أنا إنسان ولم يعد غريب لدي كل ما هو إنساني. إلتقطها ميشيل دي مونتين وأصبحت تجسد قلب وعقل كتاباته. فأصبح يري في كل إنسان تجسيد لتجربة الإنسانية مجتمعة". ركَز ميشيل دي مونتين على المعرفة التي تمنح الفرد القيم الجديدة، كحرية الفكر وانفتاح الروح والتواضع والتسامح وحب الحياة، وهذا ما يحتاجه الإنسان، في المقلات لا يحدد جوهره ولا مآله الذي يصير إليه، وهنا يظهر الفرق بينه وسانت أغسطين في اعترافاته، فقد آمن بالتباين والاختلاف ليجسد روح التواضع والتسامح ويبتعد عن التعصب الذي تجسده عبارة نحن أحسن العرب وأحسن الأفارقة ولو كره الكافرون. كانت كتاباته الأولى خلاصة لفترة من العزلة فرضها مونتين على نفسه ليعيش حياة يرف عليها الهدوء وتخصبها القراءة، وكانت هذه الخلاصة انعكاسًا لعدة عوامل أثرت في هذه التجربة الذاتية لمونتين: كثقافته وعزلته وتأملاته وعنايته بالأدب عنايته بمشكلات عصره الفكرية والاجتماعية، فتداخلت هذه العوامل وظهر انعكاسها عندما بدأ مونتين الكتابة عام 1571. مرت كتابات مونتين بمراحل تأثر فيها ببعض التيارات الأدبية إلى أن وصل مرحلة التطور التي أبدع فيها هذا الفن الجديد من الكتابة فكان له فضل الريادة فيه، حيث كانت سنة 1580 هي سنةَ ميلاد المقالة على يد مونتين بعد ما يقارب عشر سنوات، حيث جمع ما كتب في هذه السنوات وعدته أربع وتسعون مقالة، ونشرها في جزئين سماها محاولات، وكان في هذه المحاولات مغلبا للعنصر الشخصي على العناصر التي ترفده من قراءاته المختلفة، وكانت حديثًا عن تجاربه الخاصة مدعمًا ببعض الأقوال المأثورة والحكم التي تأتي دون قصد، وكانت فيضا من التأملات العميقة والتجارب الشخصية الصادقة؛ ولهذا عد مونتين رائدًا لفن المقالة بعامة، ولنوع من أنواعها وهي المقالة الذاتية بخاصة، وبهذا نشأت نشأة ذاتية.