عندما وجد الإنسان الأول نفسه عاجزا عن مواجهة الظواهر الطبيعية وعن تفسير ما يحيط به، أراح نفسه بإرجاع الأمر إلى وجود قوى ميتافيزيقية تحرك هذا الكون وبدأت إرهاصات وجود التدين وما تواتر معه من حض على معرفة مآل الأقوام السابقين و تولدت لدى الإنسان رغبة محمومة فى تعاطى التاريخ والتسابق لكتابته وتدوين أهم الأحداث فى سجله الزاخر ، ومع تسارع وتيرة المعرفة لدى الإنسان عبر سنوات وجوده فوق ظهر الأرض تعددت مدارس كتابة التاريخ وطرائق تدوينه، لكن الأمر لم يكن دوما يتسم بالنزاهة والتجرد إذ انزلق كتاب التاريخ فى حقب عديدة للي عنق الأحداث بما يخدم أهدافهم المختلفة والتى توزعت بين انتماءات عرقية أو مذهبية أو انحياز لتيار يناجز غيره من التيارات أو لقوم يتناحرون مع أقوام آخرين، ورأينا وجود المؤرخين القوميين الذين سعوا لتدوين أحداث أممهم فى أشكال التدوين المختلفة، وكان اليونانيون أبرز هؤلاء إذ اتخذوا من الأعمال الملحمية وسيلة للتأريخ وتبعهم فى ذلك الكتاب الرومان، لكن فى فترات بعينها لم يكن هؤلاء بمنصفين فى تناولهم للأحداث التاريخية ولعل أبرز مثال على ذلك هو الطريقة التى تناول بها مؤرخو روما لشخصية "هانيبال" القائد القرطاجنى الذى دوخ روما وهدد سلامتها لسنوات طويلة فى مرحلة من مراحل الصراع القديم بين الشرق والغرب على بسط النفوذ والسيطرة على مقومات القوة ومنابع الثروات. وفى السعى لكتابة التاريخ اختلط عند البعض الواقعى بالأسطورى والحقيقى بالمتخيل وأبرز مثال على ذلك هو مرحلة التاريخ الأسطورى الفارسى، وفيه اختلطت الشخصيات التاريخية بالأساطير والحكايات الشعبية، ومن العجيب أن هذه المرحلة ينظر إليها على حالتها تلك بعين الاعتبار عند التعرض لتاريخ بلاد فارس وخاصة إيران، ولقد شارك العرب الفرس هذه الخصية فى فترات موغلة القدم من تدوين تاريخنا، فعلى الرغم من عدم وجود تأريخ بالمعنى المتعارف عليه فى بلاد العرب إلا أن هناك عدة أشكال لكتابة التاريخ كانت موجودة لعل الشعر يكون أبرزها يتبعه فى ذلك بعض الحكايات والقصص التى كانت تقص هنا أو هناك على امتداد أرض العرب، وكانت اليمن من أغنى البقاع بهذه الحكايات وخلف لنا ذلك العديد من أشكال التدوين والكثير من النقوش والخطوط الكتابية. واستمر مسلسل التحيز فى كتابة التاريخ حتى يومنا هذا فعندما نستعرض ما كتب بيد المؤرخين الغربيين لفترة التاريخ الحديث والمعاصر سنجد تباينا واضحا فى كتاباتهم حول الوجود الغربى الاستعماري فى الشرق، أضف إلى ذلك كتابات المستشرقين الذين تنوعت مشاربهم وغلبت النزعات العنصرية على الكثيرين منهم، ولم يسلم تاريخنا العربى الحديث من هذه الأدران، فبالرغم من قدم مدارس التأريخ العربى التى ترجع إرهاصاتها لما قبل الدعوة المحمدية ثم تحددت ملامحها فى القرن الأول الهجرى ثم نضجت فيما بعد وتعددت طرائقها حتى بلغت أوج نشاطها إبان الدولة العباسية، إلا أن مؤرخينا لم يسلموا هم أيضا من مرض التحيز والتعصب وباستعراض سريع لما كتب فى تاريخ الخلافة الراشدة من قبل المؤرخين السنة والمؤرخين الشيعة سنجد نتاج التحيز المذهبى وكيف يؤثر على حيدة المؤرخ، وبعد مرحلة من الجمود الفكرى والابداعى تواترت مع الوجود العثمانى فى بلادنا العربية بزغت حركة تأريخ حديثة كانت متأثرة فى بدايتها بالمدارس الغربية، ومع ثلاثينيات القرن العشرين بدأت صفحة جديدة فى كتابة التاريخ العربى واستمر نموها ونضجها حتى أصبحت لها شخصيتها الواضحة وصار لها أعلامها المبرزون، لكن ظلت المغالطات موجودة وتعدى الأمر مجرد التحيز حتى اقترب من أن يصبح جريمة فى حق الشعوب،و هذا ما سنسعى لتوضيحه فى مقالنا القادم إن شاء الله.