"لا تثبت قوة الدولة مهما كان حجمها إلا بمبادرة عسكرية خارج أراضيها".. مقولة للمؤرخ العسكري الإنجليزي ليدل هارت، في كتابه "الطريق للانتصار في الحروب" المنشور قبل ما يزيد عن سبعين عامًا، والذي تناول خلاله القوة العسكرية المتنامية بسرعة للولايات المتحدة آنذاك، والتي رأى أنها ليس لها مردود في ميزان القوة الدولية والنفوذ السياسي كقوة عظمى بسبب التزامها بحدودها الجغرافية، فكانت تسلك عشية وبعد اندلاع الحرب العالمية الثانية سياسة الحياد، إلى أن أجبرت على التدخل أولاً بتصنيعها لسلاح جيوش الحلفاء، وثانياً بوطء أقدام جنودها لأراضي آسيا وأوربا بعد حادثة ميناء بيرل، وهو ما خلق من الولاياتالمتحدة قوة عظمى. قياساً مع فارق-بالحد الأدنى في التاريخ والجغرافيا والمحيط الاستراتيجي- تنطبق مقولة ليدل هارت على دولة الإمارات العربية المتحدة، الدولة الناشئة قبل نحو أربعين عامًا، شهدت خلالها تحولها من إمارات متفرقة تحت حكم قبائلي إلى قوة اقتصادية وإعلامية وسياسية نافذة، ليس فقط في منطقة الخليج، ولكن على امتداد خارطة الشرق الأوسط، فمنذ التسعينيات وبعد حوالي عقدين من نشأتها، تحولت الإمارات من نسق دولة خليجية اقتصادها ريعي قائم على البترول، إلى دولة لها ثقل اقتصادي هائل قائم على التصنيع والخدمات والتجارة والاقتصاد المالي والسياحة والعقارات، لا ترتبط فحسب بالنهضة التي شهدتها إمارات الدولة السبعة، وعلى رأسها أبو ظبي ودبي، ولكن أيضاً على الساحة الاقتصادية العالمية في شتى بقاع الأرض. لهذه القوة الاقتصادية الهائلة مردود سياسي تمثل في البداية أن تكون الإمارات كغيرها من دول الخليج حليفة للولايات المتحدة، ولها في ذلك ما يقابله من امتيازات عسكرية وأمنية، أهلت الإمارات لتكون أحد البلدان الخليجية التي يعتمد الوجود العسكري الأمريكي في الشرق الأوسط عليها. لكن لم تقف الإمارات عند هذا الحد من "نفوذ الحليف" فكانت حكومة أبو ظبي في سياستها الخارجية سواء على مستوى الشرق الأوسط أو منطقة الخليج غير متسرعة لأي دور قيادي على صعيد المستويين السابقين في فترة ما بعد حرب الخليج الثانية وحتى اجتياح العراق، فتخلت عن هذا الدور لصالح الرياض من باب اتساق المصالح بين الاثنين؛ فتركت الإمارات الساحة الإعلامية السياسية للسعودية، والأخيرة أبدت ارتياحاً لتصدر قنواتها مؤخراً في مواجهة النفوذ الإعلامي القطري، والمميز في هذه المرحلة أن الإمارات لم تتبع ظل السعودية في كافة خطواتها السياسية/الإعلامية، ولكن كان لها مبادرات منفصلة، منبعها تهالك الدور السعودي لبعض الوقت، خاصة منذ تورط الأخيرة في الأزمة السورية وعجزها عن إدارتها وانفلات الأمور؛ مما أفضى في النهاية إلى داعش، وهو ما جعل الإمارات تتصرف على كافة المستويات بتنسيق مع أطراف خارجية كان آخرها مصر، بعيداً عن العباءة السعودية المترهلة، ولكن في إطار المصلحة المشتركة أيضاً. خليجياً بكرت الإمارات في السعي إلى تصفية نفوذ جماعة الإخوان المسلمين على أراضيها، خاصة وفي منطقة الخليج عموماً، فكانت أول الدول التي جرمت نشاط الجماعة على أراضيها، وبالغ مسئولوها الأمنيون والسياسيون في مهاجمة الإخوان خلال الثلاثة أعوام الماضية، و"الربيع العربي" ككل منذ بدايته، وهي في ذلك سبقت السعودية التي اتخذت نفس الإجراءات في بداية العام الجاري. ويمكن القول إنه لا يوجد في تاريخ البلدين قضية مشتركة تلاقوا فيها مثل مسألة مواجهة النفوذ القطري ومحاصرته، ليس فقط على الصعيد السياسي سواء في منطقة الخليج أو على امتداد مناطق الحروب بالوكالة من سوريا إلى ليبيا، ولكن أيضاً الاقتصادي، حيث منافسة الدوحة لدبي في نقطة المركز المالي والخدمي الأول في الخليج. في هذا السياق يرى المحلل السياسي للمجلس الأوربي للعلاقات الخارجية أندرو هاموند، في مقاله بمجلة فورين بوليسي الأمريكية، أن الخلاف حول الإسلام السياسي بين دول المنطقة ودول الخليج على وجه الخصوص أفضى إلى نتيجة أولية مفادها صعود الإمارات كقوة إقليمية هامة، ليس فقط بشراكتها خليجيًّا مع السعودية في التصدي للإخوان ومحاصرة قطر الخصم الاقتصادي للإمارات، ولكن على مستوى المنطقة بتعاونها مع مصر، فشكلا سويًّا ذراعًا عسكرية طويلة لإدارة معركة في ليبيا بين محوري: (قطر-تركيا-الإخوان) و(مصر- الإمارات-السعودية)، ليس بالوكالة فقط عن طريق دعم الوطنيين الليبيين ضد الإسلاميين، ولكن بتدخلهم المباشر، والذي كان آخره الغارات الجوية في محيط مطار طرابلس قبل نحو أسبوعين. ويضيف هاموند "ليبيا كانت اختبار استعراض عضلات دول الخليج حتى قبل الغارات الجوية الأخيرة، فاستجابتهم الأولية للانتفاضات العربية تمثلت في تحالف الإماراتوقطر مع حلف الأطلسي في الغطاء الجوي دعمًا للثوار الليبيين الذي أنهوا نظام معمر القذافي في 2011، ولكن تورط الإمارات في ذلك الوقت كان محدودًا ومؤطراً في خطاب لاقى قبول مواطني العالم، وذلك في الوقت الذي واصلت فيه قطر دعم وتمويل الجماعات الإسلامية بتوفير الأموال ووسائل الإعلام". وخلص هاموند إلى قول إن "التغيرات التي تعصف بالشرق الأوسط في السنوات الأخيرة أجبرت الإماراتيين إلى اتخاذ جانب أحد أطراف الصراع الإقليمي الكبير مع حلفائها من المصريين والسعوديين. فقطر عملت على زعزعة استقرار الأنظمة السياسية، سواء بالانتخابات أو بالعنف خارج حدودها الإقليمية، وهو ما حدا بالإمارات إلى اتخاذ مواقف مبادرة وجذرية تجاه الدوحة؛ ليتناسب ذلك مع الطموح الإماراتي المجبرة عليه أبو ظبي". من جانبه رأى الكاتب والباحث المتخصص في شئون الخليج العربي سايمون هاندرسون أن الإمارات تسعى لتأكيد دورها الأساسي في المحور الثلاثي الساعي إلى محاربة الإسلام السياسي، وأن الضربات الجوية في ليبيا تشير إلى الشعور بالإحباط في القاهرة وأبو ظبي من عدم اتخاذ الولاياتالمتحدة إجراءات لتحقيق الاستقرار في ليبيا. من اللافت تدخل الإمارات بقوة في هذا الشأن، والذي كان من الممكن أن تتولاه القاهرة وحدها، ولكن بسبب عدم تمكن النظام المصري الجديد من كامل أدواته الخارجية، وتذبذب علاقته مع واشنطن، فإنه فضل أن تنفذ الضربة الجوية في ليبيا بشراكة مصرية خليجية سواء من السعودية أو الإمارات، وبالفعل قامت الأخيرة بهذا الدور بطائراتها، والتي انطلقت من المطارات المصرية، لتبرهن الإمارات أنها اضحت قوة إقليمية كبيرة، ليس فقط اقتصاديًّا وإعلاميًّا، ولكن سياسيًّا أيضاً، وربما في المستقبل القريب يصبح لها رؤيتها الخارجية الخاصة بعيداً عن الارتباط بالرؤية السعودية.