قد يكون مفهوما ما قاله عراب الصهيونية تيودر هرتزل في نهايات القرن التاسع عشر من "أن اليهود الذين يريدون الدولة اليهودية ستكون لهم"، فقد كان في ذلك الخيال الصهيوني المبكر ما يمكن وصفه بأحلام مُجرمة مُحرمة بكيان قائم على أسس دينية عنصرية إقصائية، وهنا تبدو المفارقة واضحة في أن المرء لا يستطيع غلق صنبور أحلام اللص بسرقة أموال بنك ضخم، أو كبح طموحاته غير المشروعة في المزيد من الثراء الحرام، بل ومقاومته إن هم بجريمته ما استطعنا إليه سيبلا.. لكن المدهش هو إتاحة التسهيلات اللازمة للص لاتمام سرقته، وتوظيف الجهل وسوء التقدير لاتمام عمليات السطو. هي بلا شك مفاجآت أحلام اللص، ويا لها من مفاجآت، والتي كان أخطر فصولها في إحدى مدارسنا الابتدائية "الحكومية"، ولنضع تحت الحكومية "ألف خط"، فخلال انهاء بعض الإجراءات الإدارية لنجلي الطالب بالمرحلة الابتدائية، كان أن لفت انتباهي لوحة توضيحة كبيرة خلف طاولة مكتب مدير المدرسة، تتحدث أسطرها القلائل عن مخاطر مشروع سد الألفية الأثيوبي، وفيما بين سطور تلك اللوحة الشارحة تسربت كلمة "الدولة اليهودية"، في معرض الإشارة الي الكيان الصهيوني، ودوره المشبوه في ملف السد الإثيوبي، كان بديهيا حينها أن أسجل اعتراضًا لدى مدير المدرسة لاستخدام كلمة "يهودية الدولة" في لوحة توضيحية بمدرسة ابتدائية تتبع الحكومة المصرية، معتبرا انه جريمة كبرى ليس في حق الأجيال التي ستطالع تلك اللوحة فحسب، لكن أيضا في حق مصر بأكملها التي اعترفت إحدى مؤسساتها التعليمية بتلك الكلمة الصهيونية المشبوهة. اكتشف المرء حجم الكارثة مع اضطراره الى شرح حقائق كان يحسبها بديهيات راسخة في العقل والوجدان المصري، فوجدتني مجبرا على أن أشرح لإدارة المدرسة معنى تلك الكلمة المفخخة، وما تحمله من مصادرة خبيثة لحق اللاجئين الفلسطينيين بالعودة الذي كفلته الأممالمتحدة وفق القرار 194، والسعي للالتفاف حوله لإفراغه من مضمونه، وما تعنيه "يهودية الدولة" من اقرار لا يقبل الشك أو اللبس بحق الصهاينة بالطرد أو التبادل السكاني لعرب 1948، هذا فضلاً عن شرعنة الواقع التمييزي الذي يتعرضون له منذ النكبة. لمحت ملامح الاندهاش على وجه مدير المدرسة والوكيل، وأنا أغلظ لهم الأيمان بأن معنى تلك الكلمة المشبوهة هو الاعتراف بالفكرة الصهيونية، والرواية الصهيونية للصراع العربي الإسرائيلي، وفي ذروة النقاش تسرب الى نفس المرء شعورا قويًا بأنه يحكي قصة من رواية ألف ليلة وليلة في باكورة مصانع النشء المصري، ثم جاء ما ينسف تلك الدهشة حين انزلق الحوار مع وكيل المدرسة حول فكرة وجود الكيان والاعتراف به، واعتبر رأيي السلبي في مسألة وجود "الكيان" والاعتراف به هي وجهة نظر شخصية، بل ونصح المدير بعدم القلق من تداول الكلمة! نعم، لا ينبغي أن يستبد القلق بنفس المربي الفاضل مدير المدرسة، ولينم السيد وكيل المدرسة قرير العين مستريح البال والخاطر، فما من قانون يجرم استخدام هذا المصطلح، أو منهج يشرح أبعاده الكارثية التي تزيف الوعي وتطمس الهوية القومية وتنسف كل دور مصري مستقبلي في القضية الفلسطينية، فالأمور تسير على ما يرام طالما ابتعدت الكلمة عن التجريم الاداري أو الجنائي، ولتتسرب وتستقر أفكار هرتزل في مدارسنا الابتدائية والاعدادية والثانوية أو حتى الجامعية، فقد فرشت لها اتفاقية كامب ديفيد البساط مد البصر لتنتشر، وأتاحت لها التراكم الزمني لينحر الذاكرة التاريخية، ويمرر كل ما من شأنه أن يدفن الصراع العربي الاسرائيلي ويهدر التضحيات التاريخية للمصريين في سبيل القضية الفلسطينية. لن يكلف المرء خاطره بمناشدة وزارة التربية والتعليم بتجريم استخدام "يهودية الدولة" والتوعية بمخاطرها، فحسبي أن خطوات السفارة الصهيونية ستكون أوسع وأسرع في اغتنام إشارة اللحظة، وربما تبعث بوفد لزيارة المدرسة والتقاط الصور بجانب تلك اللوحة الايضاحية، او إقامة حفل تكريم كبير للمدير ولرؤسائه وصولا للسيد وزير التربية والتعليم، فقد اينعت ثمار الاستقرار بين مصر والكيان وتحول الدم الى ماء أو قُل غاز، ولا مناص من الاستمتاع بحصاد النبت الشيطاني، انه السلام وتلك ثقافة السلام التي أرادوها، في أجواء "عكاشية" ترفع شعار "لتذهب غزة الى الحجيم". لا أتمنى أن يمتد العمر للحظة أجد فيها تيودر هرتزل وقد انتقل من صفحات المجرمين في مناهجنا الدراسية، الى صفحات العظماء الذين خلدتهم الانسانية، فيكفينا أن دولته اليهودية المزعومة أصبحت واقعا جدليا في مدارسنا لا يملك احد سبيلا أو منطقا إداريا لتغييره، وأخشى ما أخشاه ان يكون ما التقطته العين بالمصادفة البحتة هو غيض من فيض مما قد تحتويه مدارسنا من سموم تدمر الاجيال وتزيف وعيها القومي، وتحولهم الى مشاريع عملاء وجواسيس تحت شعار السلام وخياره الفاسد!