ليس غريباً أن ترى الألم يتكرر لدى المواطنين في غزة مع كُلِّ إشراقة شمسٍ ومع كُلِّ نهايةٍ لليوم. في مستشفى الشفاء بمدينة غزة، لا زال المئات من الجرحى الذين طالتهم نيران الاحتلال الاسرائيلي يرقدون في أقسام المشفى المختلفة، إلا أنَّ التشابه بينهم هو أنهم جميعاً قد تم استهدافهم بسلاح الاحتلال الاسرائيلي خلال أيام العدوان على القطاع والذي لم يميِّز بين طفلٍ وشابٍّ وشيخ. فريق البديل في غزة قام بجولة في أروقة المستشفى، وفي المدخل رأينا الكثير من الناس الذين جاؤوا لزيارة ذويهم المصابين والاطمئنان عليهم، مستثمرين فرصة التهدئة التي وقعتها الفصائل ودولة الاحتلال لمدة خمسة أيام. وفي الداخل من المستشفى.. سرائر للمرضى وضعت في كل مكان، والمصابين قد ملؤوها تماماً، ذلك لأنَّ عدد المصابين الذين وصلوا إلى مُجمَّع الشفاء الطبي قد فاق كلَّ الأعداد التي توقعتها وزارة الصحة والقائمين على المستشفى. وفي لقائنا مع الدكتور أيمن السحباني مدير الاستقبال والطوارئ في المستشفى، أثنى السحباني على دور الطواقم الطبية التي لم تدَّخر جهداً في خدمة أبناء غزة الذين تحملوا ويلات الاحتلال وجبروته، وأكد على أنَّ الطواقم تعمل تحت ظروفٍ قاهرة، وأنَّ المستلزمات الطبية لا تكفي مطلقاً لسد حاجة المستشفى في ظل وجود هذا العدد الهائل من المصابين، وأضاف السحباني: "العدوان الاسرائيلي خلَّف آلاف الجرحى، وعندما نتتحدث نتحدث عن أرقام ولكن هذه الأرقام لها أسماء، وكلُّ إصابةٍ لها قصة إنسانية، كثير من الإصابات التي وصلتنا هي إصابات شديدة الخطورة أو فوق المتوسطة، ما وصل إلينا هم مدنيون من نساء وأطفال وكبار السن، 320 إصابة من الأطفال وكثير منهم أصيبوا بإعاقات بتر وإعاقات دائمة تستمر طوال حياتهم، 470 شهيد كان من الأطفال تحت سن 12 عام، المناظر التي رأيناها يشيب لها الولدان، الإصابات مؤلمة، المسعفون ينقلون أنصاف الجثث، ويقولون لي: آسف يا دكتور، سنعود بالنصف الآخر لاحقاً من تحت الركام. السؤال الذي يتكرر على ألسنة المصابين المدنيين هو: لماذا نقصف، ولماذا نموت دون ذنب؟". وعن دور الطواقم الطبية قال أكمل السحباني: "كثير من الطواقم لم تغادر المستشفى منذ بداية العدوان، وذلك لأنَّ أعداد المصابين هائلة وتحتاج إلى عناية كبيرة، يأتينا 200 جريح ولا يكون هناك سوى 15 سريراً، إلا أننا نتعامل معهم ونحاول إيجاد البدائل والحلول، ونحن كطواقم طبية سنبقى الدرع الحامي للمواطنين المدنيين، ولا زلنا نقف على هذه الأرض ونقوم بعملنا لإنقاذ المواطنين، والتحية لكل العاملين في الطواقم، هؤلاء الناس أصحاب أيادي بيضاء ولا يترددون لثانية عن القيام بعملهم". المواطنة ميسرة أبو ماضي كانت ضحيةً أخرى للهجمات الاسرائيلية على قطاع غزة، فقد فقدت أبو ماضي جنينها الذي كانت حاملاً به في شهرها السادس، وحول الحادثة التي راح ضحيتها عدد من أفراد العائلة، قالت السيدة مسيرة: "كنت أجلس في بيتي في وقت الظهيرة، وفجأة قاموا بقصف البيت الذي نسكن فيه دون سابق إنذار، أخرجوني من تحت الركام، جلست مدة 15 دقيقة تحت الركام إلى أن استطاعوا الحفر والوصول إليَّ، قصفوا البيت دون تحذير بصاروخ من طائرة إف16، استشهد أبناء عمي الثلاثة وعمي وابني الذي كنت حاملاً فيه، قتلوا جنيني الذي لم يُولد بعد، والإصابة ستمنعني من الإنجاب طيلة حياتي، جاؤوا بي إلى هنا وقاموا بإجراء أربع عمليات جراحية، وحتى الآن ننتظر التنسيق اللازم لتحويل حالتي إلى ألمانيا نظراً لأنني بحاجة إلى بعض العمليات التي يتعذر إجراءها في غزة. وكما ترون.. جسدي كله مليء بالإصابات ولا يكاد يخلو سنتيمتر واحد من الجروح". وعن الذريعة التي يستخدمها الاسرائيليون في أنهم يستهدفون مطلوبين، أضافت أبو ماضي "لا يوجد لدينا أيُّ أحدٍ من المطلوبين ونحن مدنيون لا شأن لنا بالعمل السياسي أو العسكري". أما في الجزء العلوي من المستشفى فيرقد الفتى يحيى الزعانين والذي أصيب وهو ذاهب إلى استلام شهادة الثانوية العامة، وعن ما حدث معه في ذلك الوقت، قال الزعانين: "أخذت الشهادة من بيت لاهيا وكنت عائداً إلى بيتي في بيت حانون، وفي منطقة الشيخ زايد كان الخبراء يقومون بتفكيك بعض الصواريخ التي سقطت في المنطقة؛ فانفجرت الصواريخ. أنا كنت أمشي في طريقي إلى البيت وأصبت حين انفجر الصاروخ وكان هناك عدد من الشهداء الذين تحولوا إلى أشلاء، وعدد من الجرحى الذين أصيبوا بجراح مختلفة. هذه شهادتي التي كنت أحملها وقد امتلأت بالدماء، أريد أن أكمل دراستي، وسوف أبحث عن جامعة جيدة". في كل صورةٍ.. تكمن حكاية جديدة لا يعرفها سوى أصحابها، وهؤلاء الناس الذين وصلنا إليهم كانوا جزءً من كثيرين لن تتسع الفرصة للحديث معهم جميعاً، أعداد المصابين في قطاع غزة أصبحت هائلة، إلا أنَّ كثيراً من القصص المماثلة ترقد في سرير مجاور، أو في مستشفى آخر، والعامل المشترك بين كل هذه الحكايات، هو أنَّ من يرويها هو الفلسطيني الذي يدفع ثمن هويته يومياً، ويرسل للعالم رسائل يعرف أنها لن تصل إلى الكثيرين الذين وضعوا أصابعهم في آذانهم، وجلسوا يستمتعون بالهدوء في بلادهم.