الشعوب تثور مرة .. وتخضع آلاف المرات [ قول مأثور ] يثبت الواقع بأن الاستبداد لا يشوه فقط المؤسسات السياسية والبنية الاقتصادية والعلاقات الاجتماعية ؛ وإنما يشوه أيضاً قدرة الشعوب على الإدراك السليم . ولذلك فإن حصن الأمان لأى أمة قام شعبها بثورة ؛ يتمثل فى أن يصل إلى السلطة أشد أطياف هذه الثورة إيماناً بالحرية وقيمها ومبادئها ؛ فيتم ترسيخ هذه القيم والمبادئ فى المجتمع بما يسمح بتوسيع خبرة الناس بممارسات التعددية والتسامح وإدارة الاختلاف ؛ ومن ثم تنزوى الأفكارالمتطرفة والجماعات المتشددة لتنحصر فقط فى مساحتها الطبيعية الضيقة فى أى مجتمع متقدم ومتحضر . ولكن عندما تصل التيارات المتشددة إلى الحكم عقب أى ثورة شعبية فإن هذا يكون نذير خطر ؛ لأن التشويه الذى ترسخ نتيجة طول عهود القهر داخل عقول الناس فأفقدهم القدرة على الادراك السليم ؛ يؤدى إلى سهولة تضليل الجماهير وتزييف وعيها بما يسمح بإعادة إنتاج الاستبداد ولكن بشعارات ومرجعيات أخرى . وربما لا يثير القلق وصول أى جماعة من المتشددين إلى السلطة أو مشاركتهم فيها فى أى مجتمع متقدم ؛ نظراً لأن ترسخ مناخ الحرية والتعددية يكون هو الضامن لعدم انقلاب تلك الجماعة على الديمقراطية . ولكن الأمر يختلف فى المجتمعات التى عانت من نظم القهر والاستبداد لعقود طويلة ؛ لأن احتمالات انقلاب المتشددين على الديمقراطية للانفراد بالحكم دون شريك تكون كبيرة ومنذرة بإنتاج حقبة جديدة من الاستبداد قد تمتد لعدة عقود . لذلك يبدو تصويت المصريين للتيارات الدينية المتأسلمة فى الانتخابات ؛ بمثابة النموذج الأمثل لمدى التشويه الذى يطال وعى الشعوب عندما ترزح لسنوات تحت حكم القهر والاستبداد ؛ فتكون المراهقة السياسية هى العنوان لتوجهات غالبية المجتمع ؛ بما يتشابه مع ذات ممارسات المراهقة باعتبارها مرحلة عمرية يتم التعامل خلالها مع الأمور اعتماداً على معايير شكلية مع اهمال تام لأية معايير موضوعية ؛ نتيجة قلة الخبرة وضحالة التجربة ؛ مما يجعل احتمالات الخطأ أكبر دائماً من الصواب . ومن المحزن ؛ أن المرتين اللتين أتيح فيهما للمصريين التصويت عقب الثورة ؛ فأنهم قاموا للأسف بالتصويت ضد الثورة ؟ وليست هذه فزورة ؛ فقد كان تصويت المصريين ب : نعم ؛ فى الاستفتاء على التعديلات الدستورية التى تجعل الانتخابات قبل الدستور ؛ بمثابة الضربة الأولى الموجعة للثورة ؛ حيث تأجلت إمكانية صياغة الثورة لدستورها فى ظل الزخم الثورى ؛ وبدلاً من التوحد لصهر خلاصة القيم التى أفرزتها الثورة فى دستور جديد ؛ انقلبت الآية وتفرقت التيارات السياسية استعداداً لانتخابات محورها هو التنافس والمزايدة ؛ ومن ثم ظهرت الشروخ حتى داخل التيارات التى تنتمى لمرجعية واحدة . ثم كانت الضربة الموجعة الثانية ؛ عندما قام المصريون بالتصويت فى المرحلة الأولى من الانتخابات البرلمانية للتيارات الدينية المتشددة ؛ بما يعنى وضع المجتمع المصرى على أجندة التشدد الدينى ؛ وكأن كل مشاكل المجتمع المصرى تتلخص فى مشكلة غياب مظاهر التدين ؛ فكان التصويت للمتشددين لكى ينشروا مظاهر التدين فى المجتمع . وذلك على الرغم من أن إحدى سلبيات المجتمع المصرى المزمنة هى التدين الشكلى والتواكل وقصر الدين على الشعائر دون المعاملات ؛ وهى نفسها ذات السلبيات المزمنة التى تعانى منها التيارات المتشددة . ولعل خطورة استحواذ المتشددين على السلطة فى المجتمع المصرى فى هذا التوقيت عقب الثورة ؛ تتمثل فى أن هذا هو التوقيت الخطأ والمبكر لوصولهم إلى السلطة ؛ وخصوصاً فى ظل أرض سياسية جرداء من الدستور وتفتقر إلى الوعى السياسى لدى الجماهير ؛ ومن ثم يصبح انقلابهم على الديمقراطية أحد المخاطر المطروحة بشدة إلى أن يثبت العكس . لذلك على الشعب المصرى الذى مازالت أمامه مرحلة ثانية وثالثة للتصويت فى الانتخابات ؛ أن يعلم أن الثمن المترتب على وضع المتشددين على كراسى السلطة هو ثمن فادح ؛ سيدفعه هذا الشعب دماً وألماً وقهراً وحزناً . وذلك لأن التشدد لا يصنع تنمية ولا يؤسس حضارة ؛ وإنما يقود أى مجتمع إلى مجموعة من المواجهات العبثية التى تفضى بدورها إلى سلسلة من الأزمات الطاحنة التى تأكل الأخضر واليابس وتحصد الأنفس والأموال . ولعل أسباب ذلك واضحة وظاهرة ويمكن استقائها من : الواقع المعاش .. ومن التاريخ المعروف .. ومن المنطق المعقول . فالواقع المعاش ؛ يثبت أن التيارات الدينية المتشددة تقوم على مبدأ تنظيمى هام هو : مبدأ السمع والطاعة ؛ ومنظمات السمع والطاعة لا يمكن أن تكون منظمات سياسية ؛ لأن العمل السياسى يقوم على التفاوض والتحاور والنقاش المستمر والقدرة على إدارة الاختلاف للخروج بموقف يعبر عن إرادة الغالبية وليس تسلط القيادة أوالأقلية . وبالتالى فإن وصول المنظمات المتشددة إلى السلطة يعنى أنها تصل إليها وهى تحمل معها نفس مناهجها وأساليبها فى العمل التى تقوم على الاقصاء للرأى الآخر ؛ واعتبار الاختلاف تمرد والحوار مضيعة للوقت وإدارة الاختلاف فتنة . أما التاريخ المعروف ؛ فيثبت أن دولة الخلافة الإسلامية منذ الدولة الأموية مروراً بالدولة العباسية وانتهاءً بالدولة العثمانية ؛ كانت دولة لا تختلف عن باقى الممالك والإمبراطوريات التى سبقتها والتى عاصرتها ؛ ولم تحقق تلك الدولة أى نظام للحكم يضمن تحقيق العدالة والحرية والمساواة . فلم يتم إنشاء أى نظام يضمن عدالة القضاء واستقلاليته عن السلطة الحاكمة ؛ وإنما كان القضاء يستمد عدالته من شخص القاضى لو كان عادلاً ؛ ويستمد استقلاليته من شخص الخليفة لو كان متساهلاً . أما الحرية فقد كانت مكفولة فيما لا يتعلق بالاقتراب من نقد الخلافة أو رجال الحكم ؛ ومن ثم فلا رقابة ناجزة على ممارسات السلطة الحاكمة . بينما المساواة كانت مساواة فى الفقر الذى كانت تعيش فيه غالبية الرعية ؛ بينما ترفل القلة الملتفة حول الخليفة ورجال الدولة فى النعيم والبذخ . أما المنطق المعقول ؛ فهو يثبت أن الجماعات الدينية المتشددة تفشل دائماً فى إدارة المجتمعات؛ وذلك لسببين رئيسيين : السبب الأول : أن تلك الجماعات لا تمتلك فهماً واضحاً حول الطبيعة البشرية الفطرية للإنسان ؛ بحيث تتعامل مع الإنسان بعيداً عن تلك الطبيعة الفطرية التى أودعها الله فيه . وبالتالى تطمح تلك الجماعات إلى فرض كتالوج لا ينبغى للإنسان الخروج عليه ؛ بحيث يتحول المجتمع الإنسانى إلى ما يشبه مجتمعات النمل والنحل ؛ التى تتميز بالانضباط الناتج عن الغريزة الفطرية وليس العقل الواعى ؛ وذلك فى تجاهل تام لحقيقة الحرية التى فطرها الله فى الإنسان مصداقاً لقوله تعالى : ونفس وما سواها ؛ فألهمها فجورها وتقواها ؛ قد أفلح من زكاها ؛ وقد خاب من دساها [ سورة الشمس 7 / 10 ] . فمعنى إلهام الفجور والتقوى هو القدرة على الاختيار ما بين الخير والشر ؛ بما يعنى حرية الاختيار . ومن ثم لا مجال فى عالم البشر للانضباط الغريزى اللاواعى لمجتمعات الحشرات ؛ وإنما هى حرية واعية ترتفع بقامة الإنسان لو أفلح إلى عنان السماء ؛ وتهبط به الى حضيض الارض لو خاب . وتلك الحرية الواعية تقتضى فى أغلب أحوالها التذكير وليس الإجبار والتسلط والفرض ؛ مصداقاً لقوله تعالى : فذكر إنما أنت مذكر ؛ لست عليهم بمصيطر [ الغاشية 22 ] . وبالتالى يبدو إخفاق المتشددين دينياً فى فهم الطبيعة البشرية الفطرية للإنسان وكأنه تحدى صارخ لمراد الله فى الأرض بأن الناس ولدوا لكى يكونوا أحراراً . فالذين يتحدثون باسم الله من المتشددين هم فى الحقيقة أول المتمردين على منهج الله وسنته وفطرته فى خلقه . المجتمع الإيرانى والأفغانى والصومالى وهيئة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر فى المجتمع السعودى ؛ كلها أمثلة فازعة صارخة بسوء المآل الذى يقود إليه المتشددون لو امتلكوا السلطة وأمسكوا بالزمام . السبب الثانى : أن تلك الجماعات لا تمتلك فهماً راجحاً عن دور الدين فى المجتمع بما يصل بها إلى درجة عدم الفهم لهذا الدور . فالدين يشرع للعباد مجموعة من الأحكام التى يتعرض مخالفوها للعقاب فى الآخرة ؛ ولكن بعض هذه الأحكام شرع الله لمخالفوها عقاباً دنيوياً بالإضافة إلى عقاب الآخرة ؛ بينما البعض الآخر من الأحكام وهى الأغلب اقتصرت عقوبات مخالفتها على الآخرة دون الدنيا ؛ بما يعنى أنه لا يجوز استباق إرادة الله ورحمته وتشريع عقوبات دنيوية للأحكام التى قصر الله الحساب عليها فى الاخرة . ولكن الجماعات المتشددة تخالف ذلك وتوسع دائرة الملاحقة الدنيوية للمخالفين لأحكام الله ذات العقوبات الأخروية ؛ بما يعنى عدم الامتثال لإرادة الله التى اقتضت تأخيراً للعقاب لحكمة إلهية مفادها ؛ أولاً : أن تظل الارض نقيض الجنة مسكونة بالطاعة والعصيان معاً ؛ وثانياً : أن الله تعالى يمهل الإنسان فى الدنيا ليفتح أمامه الطريق للتراجع عن العصيان وللتذكير دائماً بأن رحمته سبحانه تسبق عقابه؛ وثالثاً : أن تكون أحكام الله هى القيود الحكيمة التى تجعل الناس أحراراً ؛ وتستمد هذه القيود حكمتها من أنها رغم أن الله شرعها لتجعل الناس عباداً فى طاعته ؛ إلا أنها تكفل لهم أن يكونوا أحراراً فى التزام تلك الطاعة . لذلك لم يشرع الله عقوبات دنيوية للمخالفين لكل أحكامه ؛ وإنما اقتضت حكمته تأجيل عقوبات مخالفة بعض الأحكام إلى الآخرة ؛ بما يعنى أن الإصرار على الملاحقة الدنيوية لعقاب المخالفين للأحكام التى قصر الله عقوبتها على الآخرة ؛ هو تمرد على مراد الله وعدم استيعاب لحكمته سبحانه . لأن الحالة الوحيدة التى يجوز فيها للجماعة البشرية أن تشرع عقوبات دنيوية للأحكام ذات العقوبات الأخروية تبرز عندما يؤدى الخروج عن أحكام الله إلى إلحاق ضرر بالغ بالمجتمع ؛ عندئذ يمكن التدخل لتشريع عقوبات دنيوية . ولكن الطرف الذى يكون له الحق فى تشريع هذه العقوبات يكون هو الأصيل وليس الوكيل ؛ فلا يجوز لأعضاء البرلمان باعتبارهم ممثلين منتخبين عن الشعب تشريع عقوبات دنيوية لأحكام دينية عقوبتها أخروية . وإنما الذى يشرع ذلك هو أغلبية الشعب من خلال استفتاء عام ؛ فأمور الدين التى ستنعكس آثارها على الدنيا لا يجوز تركها للقلة مهما كان تأهيلها العلمى أو الفقهى ؛ وإنما يتم الرجوع فيها إلى الأصيل الذى هو الشعب دون سواه ؛ مصداقاً لقوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم فإن تنازعتم فى شئ فردوه إلى الله والرسول [ سورة النساء 59 ] . فالله سبحانه وتعالى أخرج أولى الأمر من دائرة الطاعة بمجرد التنازع على أمر ما وقصرها على الله ورسوله ؛ وخاطب الجماعة بلفظ : فردوه ؛ بما يعنى أن الجماعة هى التى ترد الأمر المتنازع عليه وليس أولى الأمر إلى الله والرسول لتستنبط الحكم . وبالتالى ليس من حق أى أغلبية برلمانية أن تبتدع أحكاماً لم ينص عليها الله فى كتابه ؛ وتستند فى هذه الأحكام إلى السنة ظنية الثبوت غير المتواترة فعلاً وعملاً ؛ أو آراء الفقهاء المتعارضة ؛ لأن هذا هو المثال الصريح للتنازع . وإنما يظل الأمر معقوداُ للجماهير فى استفتاء عام تقرر فيه ما تراه صالحاً لمكان ما وزمان ما ؛ انطلاقاً من أن أحكام الدين ليست أوامر قهرية خالية من أى منطق أو حكمة أو مصلحة ؛ مصداقاً لقوله تعالى : خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين [ سورة الأعراف 199 ] . وأخيراً .. لماذا الخوف على المجتمع المصرى من التشدد ؟ فى تقديرى أن الخوف منبعه أن التشدد يعنى الغلو سواء فى التخلى عن الشئ أو التحلى به ؛ وبالتالى مثلما يقدم أهل المعصية صورة للخروج عن المنهج الإلهى ؛ يقدم أهل التشدد ذات الصورة ولكن على الطرف الآخر للغلو . فإن كان الغلو يشير عند أهل المعصية إلى التفريط ؛ فإنه يشير عند أهل التشدد إلى التزيد . وتثبت خبرة التاريخ بأن المجتمعات قد تحتمل التفريط أكثر من احتمالها للتزيد ؛ لأن الحرية تصحح نفسها لكونها تسمح بأن تظل قنوات المجتمع مفتوحة ؛ بما يتيح دائماً إمكانية للتنفيس ؛ بينما التزيد الناشئ عن التشدد يؤدى إلى انسداد قنوات المجتمع بما يؤدى فى النهاية إلى الانفجار . وتوضح الدراسات السيكولجية أن قدرة الإنسان على تحمل الإفراط أكثر من قدرته على تحمل الكبت ؛ ولننظر إلى الصراع بين المعسكرين الشيوعى والرأسمالى الذى انتهى بانتصار مثال الحرية الذى تمثله الكتلة الغربية ؛ وهزيمة مثال الكبت والقمع الذى تمثله الكتلة الشرقية . ولننظر إلى المجتمع السعودى الذى يلتزم بتعاليم متشددة فى انتقاب النساء ومنعهن من قيادة السيارات وملاحقة المفطرين فى نهار رمضان والمتخلفين عن إقامة الصلاة .. الخ ؛ وسنرى أن هذا المجتمع بموارده البترولية الضخمة بما يجعله يمتلك من وجهة نظر المتشددين الأخلاق والثروة ؛ سنرى أن هذا المجتمع ليس له أى نصيب فى منجزات الحضارة الإنسانية الراهنة ؛ فهو مجتمع مستهلك وغير منتج إلا للبترول الذى هو مجرد نعمة جيولوجية ؛ ولم يقدم أى منفعة علمية أو سياسية أو اقتصادية أو حتى دينية لرصيد البشرية مثلما قدم ويقدم علماء الغرب الذين يصفهم المتشددون بالكفر . بل على العكس خرج من بين ضلوع هذا المجتمع تنظيم القاعدة الإرهابى الذى قدم المثال المريع لكيفية التوظيف الإجرامى للدين للتجرأ على الحياة الإنسانية وحرمة الدم الإنسانى ؛ وما تعانى منه الصومال وأفغانستان والعراق هو نتيجة فادحة لوجود ذلك التنظيم داخل تلك البلاد. وربما يرد البعض ؛ بأن الشعب المصرى لم يصوت للتشدد ؛ وإنما قام بالتصويت للتدين لثقته بأن المتدينين أقدر على الإصلاح فى الأرض ومواجهة الفساد ؛ ومن ثم ستحل على المجتمع بركة الله جزاءً لاستقامتهم وصلاحهم . ولكن هذا القول مردود عليه بأن التدين بلا شك هو أفضل مقياس لصلاح الانسان ؛ ولكن المنطق يقرر بأن التدين الحقيقى هو الذى يتزاوج فيه التدين الظاهرى مع الاستقامة الداخلية ؛ بينما الواقع يقرر بأنه لا توجد علاقة تلازمية بين التدين الظاهرى والاستقامة الداخلية ؛ فمكنون الصدور لا يعلمه إلا الله ؛ مصداقاً لقوله تعالى : يعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور [ سورة غافر 19 ] . ومصداقاً لقوله تعالى : يقولون بأفواههم ما ليس فى قلوبهم والله أعلم بما يكتمون [ سورة آل عمران 167 ] . وحتى الرسول عليه الصلاة والسلام كان لا يمتلك اليقين على أن التدين الظاهرى يمثل دليلاً على الاستقامة الداخلية مصداقاً لقوله تعالى : وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم [ التوبة 101 ] ؛ فحتى الرسول المؤيد برسالة السماء لم يستطع كشف التدين من النفاق . وبالتالى ؛ فإن اتخاذ التدين الظاهرى كمعيار للقدرة على الإنجاز السياسى هو أمر يدخل فى خانة المراهقة السياسية . لأن الاختيار السياسى ينبغى أن ينحاز إلى الكفاءة والبرامج الواقعية العملية القابلة للتنفيذ ؛ والقادرة على التغيير فى أرض الواقع المادى ؛ وليس الشعارات الوهمية التى سقطت ومازالت تسقط فى كل البلاد التى انخدعت بها كالصومال وأفغانستان وإيران . ولعل التجربة التركية التى قال رئيس وزراءها بأنه : رئيس وزراء مسلم لدولة علمانية ؛ هى نموذج ينبغى القياس عليه لمعرفة مدى اقتراب الأحزاب ذات المرجعية الدينية فى مصر من التشدد أو الانفتاح ؛ ومن ثم القدرة على التنمية أم التردى فى المهالك والأزمات . وبالتالى ؛ على المصريين أن يتعلموا من دروس المجتمعات التى انكوت بنار التشدد وأصبحت مجتمعات خراب ونزوح . ويتعلموا من دروس المجتمعات التى أفاء الله عليها من فضله ولكنها تختنق بقيود التشدد وتبدد ثرواتها بمظاهر البذخ بينما تعجز عن المشاركة ولو بإبرة فى الحضارة الانسانية . ويتعلموا من المجتمعات التى اعترفت بحرية الإنسان التى كتبها له الله ؛ فاستطاعت أن تستخرج من الإنسان أفضل ما فيه لعمارة الارض وإصلاحها . قد تكون الانتخابات نجحت بمعيار الصندوق الانتخابى ؛ ولكنها فشلت بمعيار البناء الديمقراطى؛ لأن التشدد عندما يصل إلى السلطة على بساط الديمقراطية يسارع بطى البساط وتخزينه فى حجرة الفئران كى لا يسير عليه أحد من بعده . على المصريين أن يصححوا اختياراتهم قبل فوات الأوان ؛ لأنه لو فات ؛ فلن يجدى وقتها الندم؛ مصداقاً لقوله تعالى : يومئذ يتذكر الإنسان وأنى له الذكرى [ سورة الفجر 23 ] . دكتور/ محمد محفوظ [email protected] ت : 01227508604