تبدو الدولة المدنية من وجهة نظر منتقديها ؛ دولة مناهضة للدين ؛ تعمل على تقليص دور الدين في المجتمع بحيث لا يمتد نفوذه إلا داخل دور العبادة ؛ ولا يتجاوز لأبعد من ذلك . والدولة المدنية من وجهة نظر معارضيها ؛ دولة تدير ظهرها لأحكام الله ( أوامره ونواهيه ) ؛ وتستبدلها بأحكام بشرية ؛ غالبا ما تخطئ وقلما تصيب . ويمتلك المخالفون للدولة المدنية حجة عقلية غاية في البساطة ؛ تتأسس على قاعدة منطقية مفادها : بأن الله تعالى هو خالق الإنسان ؛ وبالتالى فهو سبحانه وتعالى القادر وحده على وضع المنهج ( الكتالوج ) ؛ الذي يضمن الإرشادات المثالية لحركة الإنسان في الحياة . وبالتالى ؛ طالما قضى الله سبحانه وتعالى أمراً فلا مجال للالتفاف حول هذا الأمر ؛ بل يصبح الانصياع له واجباً ولازماً . ولكن ؛ رغم وجاهة هذه الأفكار وبساطتها ؛ إلا أن القضايا التى تفصل فيها ؛ أعمق من أن يتم الوصول لقاعها بمثل هذه البساطة ؛ بل يحتاج الأمر إلى المزيد من الغوص بعيداً عن السطح الرائق الظاهر ؛ لنستكشف الطبقات التى تظل مختفية عن النظرة العابرة والمنطق المباشر البسيط . والواقع أن أول مظهر يسئ لسمعة الدولة المدنية ؛ هو أنها دولة لا تطبق ( الحدود ) التى نص عليها القرآن ؛ وباقى الكتب السماوية كالإنجيل والتوراة . الأمر الذي يمثل خروجاً عن منهج الله لصالح تشريعات بشرية . وإذا تأملنا لفظ ( الحدود ) ؛ فإنه من حيث موضعه في القرآن ينصرف إلى : تنظيم الطلاق ؛ والمواريث ؛ والصيام ؛ والاعتكاف ؛ وكفارة الرجوع عن ظهار الزوج لزوجته . ولم يرد مطلقاً في آيات القتل ؛ والسرقة ؛ والزنى ؛ والقذف ؛ ومحاربة الله ورسوله والإفساد في الأرض . إلا أن اللفظ اكتسب مدلوله العام في نصوص روايات أحاديث الرسول عليه الصلاة والسلام ؛ لكى يدل على العقوبات المقررة لبعض الأفعال المحرمة . ولعل السياق الذي ورد فيه لفظ الحدود ضمن آيات القرآن الكريم ؛ لا يشير إلى الحدود باعتبارها قيود لا يتم تجاوزها أو التقهقر عنها ؛ وإنما هو يشير إليها – حصراً – باعتبارها ما لا يمكن تعديه أو تجاوزه . مصداقا لقول الله تعالى : ( تِلكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فأولئِكَ هُمُ الظالِمُونَ ) [ البقرة: 229] ( وَمَنْ يَعْص اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلهُ نارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ )[ النساء: 14] ( وَتِلكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فقَد ظَلَمَ نفسَهُ .. ) [ الطلاق: 1] وبالتالى ؛ فالحدود هى ما لا يتم تجاوزه ؛ وتمثل الدرجة القصوى التى تصل إليها العقوبة على الفعل المحرم فى أشد درجاته ؛ بما يعنى إمكانية النزول عنها لمواجهة الأفعال المحرمة فى درجاتها الأقل شدة . فإذا قلنا لشخص ما ؛ تلك حدود أرضك فلا تتعداها ؛ فإن هذا لا يعنى أن يقتصر سيره فوق الخطوط المرسومة لحدود الأرض فقط ولا يخرج عنها ؛ وإنما يعنى أن يسير داخل كل الأرض تقدماً وتراجعاً دون أن يتجاوز هذه الخطوط أو الحدود . فالحدود فى القرآن ؛ هى تعريف بالحد الأقصى للعقاب الذى لا يمكن تجاوزه ؛ ولكن يمكن النزول عنه بعقوبات أقل ؛ فأقل ؛ بما يناسب شدة الفعل المحرم . فالحدود ترسم مساحة ؛ خطوطها الخارجية ( القصوى ) هى التشريع الإلهى ؛ ومحتواها ( النسبى المتدرج ) هو التشريع البشرى ؛ أو ما يسمى فقهاً ( التعزير ) . وبالتالى ؛ لا مجال للتمترس على خط الحدود ورفض أى إمكانية للنزول عن مداها الأقصى . كما أنه لا مجال أيضاً لتفضيل تشريع بشرى على آخر ؛ أو تعزير بشرى عل آخر ؛ اعتماداً على التعصب لمذهب فقهى أو الانبهار بإنجاز تراثى . وذلك مصداقا لقوله تعالى : ( خُذِ العَفوَ وَأمُرْ بِالعُرْفِ وَأَعرضْ عَن الجَاهِلِينَ ) [ الأعراف: 199 ] فالعفو هنا ؛ لا يعنى إلغاء الحدود ؛ وإنما يعنى النزول عن حدها الأقصى بما يناسب شدة الفعل المحرم . والعُرف هنا – أيضاً – لا يعنى هجر الحدود ؛ وإنما يعنى النزول عن حدها الأقصى بما يناسب السائد والمألوف من قواعد التحضر والرحمة والتقاليد . والإعراض عن الجاهلين ( أى الفارغين من العلم ) يعنى – بمفهوم المخالفة – الاستعانة بأهل العلم فكراً وعملاً ؛ أى المتخصصين فى مجالاتهم المتنوعة . وبالتالى ؛ لا مجال للأخذ بالعفو أو الأمر بالعُرف ؛ إلا بناء على دراسة علمية تحترم التخصص الذى تقتضيه المسألة المطروحة . الحدود إذن خطوط لا ينبغى تجاوزها ؛ ولكن يمكن الانطلاق داخل مساحتها بفقه العفو وقواعد العُرف ومنهج العلم . نعم ؛ فقه العفو .. وقواعد العُرف .. ومنهج العلم . فقه العفو ؛ يرى العقوبات متدرجة وفقاً للآتى : - شدة الفعل المحرم ومدى تكراره . - قواعد العُرف السائد ومدى استقراره . - منهج العلم المعروف ومدى انتشاره . ومن ثم فإن لجوء الدولة المدنية الديمقراطية للتشريع البشرى ( القوانين ) لمواجهة كافة صور الشدة المتدرجة لجرائم الحدود ؛ هو أمر يدور فى إطار ما أمر به الله طالما لم يتجاوز العقوبة الحدية . وهذا يؤكد بأن الدولة المدنية تعترف بالحدود ولا تنكرها . ولعل المظهر الثانى الذى يسئ للدولة المدنية ؛ وصفها بأنها دولة تفصل بين الدين والدولة ؛ وبالتالى تجرِّد الدولة وحكامها ومواطنيها من الوازع الدينى ؛ وتترك الدين مهجوراً معزولاً داخل دور العبادة . والواقع أن الدولة المدنية لا تتعامل مع الدين بهذا المنطق ؛ وإنما تتعامل مع الدين باعتباره مصدراً للقيم والأخلاق والضمير ، وبالتالى فهو جوهر ومضمون كل اجتماع بشرى. وتتعامل مع الدولة باعتبارها مصدر للنظام والتخطيط ؛ وبالتالى فهى الإطار والهيكل لكل اجتماع بشرى. وهذا يوضح ، بأن الدين ( كمنظومة للقيم ) هو جوهر كل دولة ، بينما الدولة ( كإطار ) هى المجال لحركة الدين . وهذا يوضح بأن الدولة المدنية ؛ لا تفصل الدين عن الدولة ؛ وإنما تفصل عن الدولة ؛ رجال الدين . فالدولة لها رجالها وهم الساسة ؛ والدين له رجاله وهم رجال الدين . فلا رجال دين فى السياسة ؛ ولا رجال سياسة فى الدين . وتلتزم الدولة المدنية بفصل رجال الدين عن الدولة ؛ لأنها ترى أن سلطة الدين مقرها نفس الإنسان وليس قصور الحكام ؛ ولذلك تحتفظ لرجال الدين بسلطتهم الروحية الدعوية ؛ وتحتفظ للساسة بسلطتهم المادية الجبرية . ولا شك بأن هذا الفصل يحقق مصلحة الدولة والدين معاً . وذلك لأن الدين جوهر اختياري وليس شكلاً أو مظهراً أو سمتاً إجباريا ، ومن ثم فإن موقعه الحقيقى هو النفس الإنسانية التى إن استوعبته عكسته على الواقع ؛ فأصبح هذا الواقع مسايراً لمنهج الله . فالدين عرشه فى النفوس ؛ وليس على مقاعد السلطة التى إن استحوذت عليه فرضته فرضاً على الواقع والناس ؛ فصار شكلاً يفتقد الجوهر والمضمون . وهذا يوضح أن الدولة المدنية عندما تقوم بالفصل بين رجال الدين والدولة ؛ فإنها بذلك تُعلى من شأن الدين ؛ وسلطته الروحية التى إن تغلغلت فى النفوس فإنها تنعكس بالخير على الواقع. ويتمثل المظهر الثالث الذى يسئ للدولة المدنية ؛ فى أنها دولة تسمح بالحرية الدينية لأقصى مدى ؛ بما قد يؤدى عملياً إلى انتشار الدعوات اللادينية التى تتطاول على الدين وتهدد بزواله . والواقع أن الدولة المدنية باعتناقها لمبدأ الحرية الدينية لحدودها القصوى ؛ لا تخرج بذلك عن منهج الله ؛ بل هى – قولاً وعملاً – تلتزم به ؛ لأنها تعترف بما اعترف الله به للإنسان ؛ وهو أنه حر ومخيَّر . فالأمانة التى حملها الإنسان هى أمانة العقل ومسئولية الاختيار ؛ ولذلك أقر الدين حرية الإيمان ؛ مصداقاً لقوله تعالى : ( لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرشْدُ مِنَ الغيِّ .. ) [ البقرة: 256 ] كما كفل الدين للناس حرية الكفر أو الإيمان ، مصداقا لقوله تعالى : ( فَمَنْ شَاءَ فَليُؤمِنْ وَمَنْ شَاءَ فليَكفر ) [ الكهف: 29 ] وذلك لأن الله بعلمه الشامل ؛ علم يقيناً أن الحرية هى السبيل الوحيد للوصول بالإنسان إلى الإيمان الحق ، وليس الإيمان الموروث . فالحرية هى السبيل لصحة الاعتقاد ، والله الذى خلق الناس والمصالح ، جعل مشيئة الإنسان قائدة للإيمان ، لأنه سبحانه يريد أن يؤمن به الأحرار ، العباد فى طاعته ؛ ولكنهم الأحرار فى التزام تلك الطاعة . ولذلك ؛ فإن الدولة المدنية بحمايتها للحرية الدينية تعزز من الإيمان الحقيقى القائم على العقل والإصلاح فى الأرض ؛ وتقلص من الإيمان الشكلى المقتصر على الشعائر واللامبالى بمصالح الناس وصلاح الأرض . ولعل اللافت للنظر ؛ أن البحث التاريخى يثبت أن الدولة غير المدنية هى التى تحاصر رجال الدين وتطاردهم ؛ لأنها بعدم سماحها بالحرية الدينية إلى حدودها القصوى ؛ تحتضن التزمت والتعصب ؛ وتضيق بالفكر الدينى القائم على الإصلاح فى الأرض ؛ ولنا فى محنة الإمام أبوحنيفة النعمان والإمام أحمد بن حنبل ؛ بالغ العبر . وبالطبع لا يمكن اعتبار دول الاستبداد العربى المعاصرة دولاً مدنية ؛ لأنها دول لا تعترف بأى حرية أساساً بما فيها الحرية الدينية !!! .............. الدولة المدنية – إذن – لا تنكر الحدود ؛ ولكنها تتعامل معها بفقه العفو وقواعد العرف ومنهج العلم . ولا تفصل الدين عن الدولة ؛ وإنما تفصل عنها رجال الدين . ولا تشجع الدعوات اللادينية عندما تسمح بالحرية الدينية لحدودها القصوى ؛ وإنما تشجع فطرة الله فى الأرض القاضية بأنه لا جدوى من إيمان الناس إن لم يكونوا أحراراً . الدولة المدنية لا تنشغل ببناء أقفاص ذهبية معقمة لتحبس الناس بداخلها بدعوى الحفاظ على الدين ؛ لأن الدين الحق ينمو فى المجتمعات المفتوحة الحرة وليس المجتمعات المنغلقة المسورة . ولأن الله خلق الإنسان حراً لكى يمارس الخطأ والصواب ؛ والكفر والإيمان ؛ والشر والخير ؛ وبالتالى لا مجال لإقامة مجتمعات معقمة على الأرض ؛ لأن الله بعد أن استجاب لدعوة نوح عليه السلام بألا يترك على الأرض أحداً من الكافرين ؛ عادت الأرض بعد سنين وامتلأت بمن هم أشد كفراً . الدولة المدنية لا تنشغل بإقامة العدالة المطلقة ؛ ولكنها تجاهد لكى تحقق أكبر قدر من العدالة لأكبر عدد من الناس . الدولة المدنية – إجلالاً وليس اجتراءً – لا تنشغل بالدفاع عن حقوق الله ؛ وإنما تنشغل بالدفاع عن حقوق الناس ؛ لأن الناس فى حاجة إلى من يدافع عن حقوقهم ؛ والله العزيز القادر غنى عن العالمين . الدولة المدنية لا يترأسها ( خليفة ) أو ( مرشد أعلى ) أو ( إمام ) أو ( أمير للمؤمنين ) اختاره الله ؛ وإنما يترأسها موظف انتخبه الشعب ليحقق ما يريده الشعب ؛ فإن أخفق اختار غيره الشعب . الدولة المدنية لا تتدخل فى حياة الناس الخاصة إلا بالقدر الذى يمنع الإضرار بالآخرين ؛ ومن ثم لا تعطى لنفسها الحق لكى تتلصص وتتجسس على الناس بدعوى صيانة المجتمع من الحرمات ؛ فمن ستره الله لا ينبغى هتك ستره . الدولة المدنية الديمقراطية ؛ لا يمكن أن تكون دولة لادينية ؛ لأنها دولة تعترف بالتنوع ؛ وتمارس إدارة الاختلاف ؛ وتقر سيادة القانون ؛ وترسى مبدأ الفصل بين السلطات . الدولة المدنية الديمقراطية هى الطريق لكى تصل كل التيارات على اختلافها إلى الحكم ؛ طالما اختارها الشعب . الدولة المدنية الديمقراطية هى الحل ..... ***** دكتور / محمد محفوظ [email protected] ت : 0127508604