سجن يلد سجنا .. وحياة تبتلع الحياة .. وألم يفضي لدم .. وظلم يكبر قهرا فيقتل السلام ويفتح بوابة شر قد لا تنغلق .. ،من داخل سجن بلا أسوار لكن يأسر الروح إلى سجن ذو أسوار عالية تحيط بمن غلبتهم الحياة فلم يغلبوها، فانتزعت منهم أدوات السلام . إنه " سجن النسا " ذلك المسلسل الذي أحدث هزة في نفس كل من تابعه والذي عرض مؤخرا في شهر رمضان، والمأخوذ عن مسرحية الكاتبة الراحلة فتحية العسال التي قضت سنين طويلة من عمرها في السجن كسجينة رأي وبالفعل لم تكن تخرج مسرحية كهذه بهذه الدقة النفسية إلا ممن عايش ورأى عن قرب ، فبدءا من الكتابة والتي اكتمل إبداعها بسيناريو وحوار مريم نعوم وهالة الزغندي توازى الصدق مع العمل واقترن به وليجذب إليه عناصر فنية لا تقل عنه صدقا بل جديرة به ، فقد قدمت المخرجة المبدعة كاملة أبو ذكري عملا اجتماعيا إنسانيا منحوتا بدقة ومهارة محترفة واجتازت به بإبداع نسائي، كما يمكننا القول التحدي الرمضاني ، وأثرت به خواطر وتأملات من شاهده بثراء قيمته وقصصه ومعانيه الكثيرة العميقة . ضم المسلسل عددا كبيرا من الشخصيات والفنانين الذين قادتهم كاملة ببراعة ،كل منهم يشكل قصة تنضم بشكل ما لعالم الأسوار الأصغرفيحوي كل من فيه عالما وحده يملأ عملا وبما إنه سجن النساء فهي حكايات نسائية ترتبط خيوطها بالمجتمع ككل وبالرجل وما يخلفه ألمه في المرأة بشكل خاص ، فلكل ألمها الذي هزمها فجاءت هنا . " غالية " بطلة المسلسل ،وإن كان الجميع يعتبرن بطلات، وكذلك "صابر" معهن ، فغالية الشخصية التي أدتها نيللي كريم باقتدار وفهم عميق لها ولمراحلها المتصاعدة المختلفة مستغنية تماما عن الماكياج فكانت أكثر صدقا،حتى الصمت مثلت به جزءا طويلا فكأنه زاد أدواتها لا أنقصها، فهو صمت حي بل صارخ الحياة وإن كان لحد الموت، خاصة في مشاهد الحلقات الأخيرة حين سجنت وحين أعلمت بموت ابنها ، غالية كانت سجانة مرهفة الإحساس كانت تضنيها قصص المسجونات وتنزف معها دموعها ولم تكن تعرف أنها يوما ستكون منهن ، جاءت إلى السجن مكان أمها بعد موتها بالمحسوبية كما ورد بالمسلسل ،فلا شخصيات بيضاء تماما به ،بل شخصيات تشكل جزءا من المجتمع ولغته التي أصبحت تقريبا طبيعية للجميع ، أحبت صابر " أحمد داوود " ،الذي يجيد الدق على أوتار مشاعر النساء وإن كان يحمل تجاهها هي شيئا حقيقيا لم يمنعه من انتهاك حرمة مشاعرها وإيذائها أذى أكبر كل مرة ،وهي الأنثى التي تحمل في إحدى وجوهها قدرا من شراسة لكنها تسامح وتلين إن تحرك حنانها وإن أحبت وقد أحبته بشدة واستنزفها هو بشدة ،ماديا ومعنويا وعاطفيا حتى انتهى بها الأمر في السجن وهي حامل في طفله في جريمة قتل كان من ارتكبها .. وهنا أتوقف مع وكيل النيابة الذي قام بدوره " محمود فياض " الذي حقق معها وكان متعاطفا معها يشك بنوارة وصابر فتوقعنا أن تتم متابعتهما حتى بعد سجن غالية وهو مالم يحدث ، لكن ربما هذا أقرب لواقع موجود ، نرى تحول غالية تدريجيا إلى إنسانة شرسة تحاول قتل زميلاتها لأقل سبب حتى تفقد ابنها في السجن في مشهد بارع الأداء فيزداد تحولها فتحاول قتل السجانة " إحسان " أم نوارة لينتهي بها الأمربعد خروجها لقتل صابر ونوارة اللذان تزوجا أثناء حبسها، بشكل بشع شرس ،وإن استهجناه لكنه يجب ربطه بتحولها النفسي في الفترة الماضية فتسلم غالية نفسها بعد ذلك راضية مرتاحة . كل من في العمل من سجينات عدن ثانية إلى السجن بشكل أو بآخر فالألم في المرة الأولى يكسر شيئا داخلهن ليواجهن بعدها واقعا لم يتغيرفي حين تغيرن للأسوأ فينكسر الألم وينحرف نحو التأقلم دون ألم ومقاومة ، فهذه دلال " درة " تدخل السجن بريئة ضحية لقوادين لتخرج منه قوادة محترفة بارتياح بعدما سدت أمامها كل الطرق بعد خروجها حتى باب أسرتها وحضن أمها في مشهد موجع شديد التأثير حتى الألم سواء من درة أو الأم " ماجدة منير " التي رفضتها خوفا على إخوتها ،أما " زينات – اللي بتزوق البنات " التي قامت بدورها "نسرين أمين " فكانت كالجرح العميق في نفس كل منا فما أقسى أن تبلغ عن نفسها وتدبر موقفا تحاسب عليه بتهمة الآداب حتى تعود إلى السجن بعد أن أشقتها الحياة والمرض فتموت هناك مبتسمة في معنى له دلالته ، أما روبي فتزداد نضجا وطبيعية فقد أبدعت في أدائها دور " رضا " الفلاحة التي جاءت من الشرقية لتعمل خادمة في القاهرة لتعيل أسرتها ،فتفتحت فيها مطالبها التي كانت مردومة وإحساسها بذاتها حين عملت لدى أسرة " دليلة " التي أخذتها وأكرمتها فأذابت خطوطا وأرادت إبقاء أخرى لم تعد تراها رضا ولن تراها فكان الصراع والغيرة بين الأنثيين ليظهر الحديث الطبقي من جديد .. وربما كان أفضل إبقاء الحدود لعدم التباس عقل جاهل غرير جعلها تصدق تماما نديتهما في المكان فما كان منها حين تذكرت الفروق إلا وأن أحرقت دليلة بإصرار كنارها المشتعلة ولا تكرر تبريرا لذلك سوى " بترازي فيا بترازي فيا " ، لتلقى مصيرها بعد أن شارك فيه بقوة والدها الذي رفض زواجا ملائما لها ممن تحب ليستمر في استنزافها ، فلا بد لبعض الأسر أن تضحي بأحد أفرادها لصالح الباقين فهو قهر أيضا وإن هاجمناه . ويعج العمل بقصص وإن صغرت تتناثر في مكوناته وتكمل معناها فكل منا بريء حتى يخطىء وما أقرب الخطأ إن ضعفت النفس فالخطوط البيضاء والسوداء داخل الإنسان ليست دائما شديدة الوضوح وما أسهل الانزلاق من المنطقة البيضاء إلا من نفس شديدة القوة وربما تغيرها بعض الظروف وهناك المعلمة عزيزة طيبة القلب وإن كانت تاجرة مخدرات لكنها لا تؤذي إلا من طلب الأذى والتي دخلت السجن فداء لزوجها " الحاج " أو " المعلم حجاج " الذي أداه الفنان "علاء قوقة " ببساطة واقتدار معا وبشكل جديد ،هي من أكرمت " هند " التي اعتبرتها ابنتها، وهي من انتقمت حين خانتها فأوجعت بل قضت عليها كأنثى ، وهناك شخصية " حياة " التي أدتها الفنانة دنيا ماهر بمهارة وصدق ملفت بل مخيف ، تلك المرأة التي تعرضت بقسوة للتحرش فصارت في عالم داخلي يبتلعها تهذي فيه بمخاوفها التي تتسع لتمنع أطفالها من الخروج أو حتى التعليم حتى تقرر أن تسممهم وتسم نفسها وزوجها معهم لتحميهم ولا تتركهم حتى في الموت وذلك حين ضغط عليها زوجها وقرر أن يذهبوا للمدارس ،غير ملتفت لمرضها النفسي بل اعتبره مس وأنها ملبوسة فقط ،وتستحق الشخصيات وقصصها مزيدا من التحليل والحديث لا يتسع له المجال .. لكن المسلسل جعلنا نطل بقصصهن الواقعية على عالم السجن من قرب بعدما كان يحذر الكثير منا الاقتراب أو التعاطف ،خاصة بناء على صورته التقليدية في الأعمال الأخرى ، وقد بدا واضحا في المسلسل المزج بين الجريمة أو الإثم ،وبين مظهر الدين في جمل مختلفة من شتى الشخصيات كقول "إن شاء الله، وما شاء الله "على لسان معظم الشخصيات كالقوادة أو الهنجرانية والتي ألقت كاملة أبو ذكري على عالمهم ضوءا ربما لأول مرة . وأيضا عبارة المعلم حجاج " ما سيد إلا نبينا محمد " ليعقبها سؤاله عن المخدرات ، فقد قصدت المزاوجة بين الإثم الحقيقي والفضيلة الظاهرية ، بين المقدس والمدنس لتعرية تناقض هذا المجتمع وسطحية التدين بين كثير من أفراده .