هى رمانة ميزان المجتمع وبوصلته التى يتم على أساسها تحديد مساره على كافة المستويات، وكذلك تكوين لمحة عامة لمستقبل البلاد، ولهذا بات ضروريا البحث عنها بعدما تم تغييبها، عنوة، مما أدى للتراجع الشديد الذى نشهده فى مصر منذ انفتاح السبعينيات القميء، إنها الطبقة الوسطى المصرية. لقد خرج من رحم هذه الطبقة العلماء والمفكرين والساسة والبنائين الكبار لمصر الحديثة والمعاصرة، فمع تجليات مشروع محمد على، وكثمرة من ثمار نهضته العلمية، تكونت طبقة الأفندية الذين سمحت لهم ظروف أعمالهم ومستوى دخولهم المادية أن يمارسوا الهوايات المختلفة وأن يكونوا الأندية العديدة للفكر والفنون والثقافة، وشيئا فشيئا انسحب الأمر على مجموعة التجار الذين امتلكوا رؤية وطنية فشاركوا فى دعم المسيرة العلمية والثقافية لمصر، ولم يكن من قبيل المصادفة أن نشهد تأسيس جامعة القاهرة بمبادرة من مثقفين مصريين ينتمون لهذه الطبقة، ثم اتسعت المساهمات لتضم كبار الملاك والتجار وأيضا بعض أمراء الأسرة العلوية، ولعل ملحمة بناء الجامعة هذه خير دليل على أهمية الطبقة الوسطى ومدى تاثيرها فى مسيرة المجتمع، خاصة وأن الجامعة قد شيدت فى بداية القرن العشرين حيث كانت تجليات التحديث ما تزال بادية على الرغم من عرقلة الاحتلال البريطانى لمسيرة مصر، ولنا أن نتصور الطفرة التى كانت ستحدث لو لم تنكب مصر بهذا الاحتلال البغيض، الذى كرس كل اهتمامه للوقوف أمام تقدمها وتقويض نموها. ولقد كان للطبقة الوسطى المصرية دورها الواضح فى تفجير حركة الجماهير المصرية عام 1919 وتشكيل الثورة الشعبية الجارفة التى أعادت للروح المصرية الحياة بعدما ظن المحتل أنه قد أجهز عليها، خاصة وأن بريطانيا قد استطاعت تكوين مجموعات من المنتفعين والمتعاونين معها ظنا منها انها بهذا ستقضى على الروح المصرية المقاومة وستضمن بقاءها على أرض المحروسة, لكن كما هى العادة دائما سرقت ثورة الشعب طبقيا وسيطر الأرستقراطيون وكبار ملاك الأراضى الزراعية على دفة الأمور وتراجع دور الطبقة الوسطى وإن ظلت تقاوم فى سبيل تأسيس روح مقاومة جديدة، ولم تكن حركة يوليو 1952 المجيدة إلا انعكاس لانخراط أبناء الطبقة الوسطى فى سلك الجيش المصرى، ولقد شهدت الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين حركة نمو اجتماعى وثقافى وسياسى كان وقودها كوادر المتعلمين والمثقفين من أبناء الطبقة الوسطى الذين تحمسوا لأهداف يوليو 52 التى انحازت لإرادة الجماهير فأصبحت ثورة مباركة، ولولا التحديات السياسية وتربص قوى الاستعمار الغربى بالتجربة المصرية وتحالفها مع بعض الأنظمة العربية الرجعية لكان لمصر شأن اقتصادى أخر، واكتملت المأساة بعد ذلك بتبنى نظام الحكم منذ السبعينيات أجندة اقتصادية غير واعية أنتجت نسقا حياتيا ومجتمعيا عبثيا تجلى فى الانفتاح الوحشى الذى أفسد المجتمع وفصم عراه وكان بداية الطريق للقضاء على الطبقة الوسطى التى مازالت تقاوم حتى الآن فى سبيل البقاء، لكن المؤشرات الحالية تؤكد أن الطبقة الوسطى المصرية تواجه تحديات مصيرية خطيرة وأن وجودها أصلا سيتحدد فى غضون المرحلة القادمة، خاصة وأن الحكومة الحالية تستعيد ثوب السادات الاقتصادى والذى كانت أبرز ملامحه اتخاذ قرارات متسرعة وغير مدروسة.