منذ عام 1947، والمعركة مستعرة بيننا وبين الصهاينة ومن ورائهم أمريكا وشرعيتها الدولية حول مشروعية دولة اسرائيل، مشروعية الاغتصاب الصهيونى للأرض العربية. كانت بداياتنا مبدئية، إذ وقفنا صفا واحدا شعوبا وحكومات فى مواجهة قرار التقسيم رقم 181 فى عام 1947، بل وشاركنا فى حرب 1948 دفاعا عن فلسطين. ورغم هزيمتنا بسبب احتلال اقطارنا وتبعيتها، إلا أننا تمسكنا بموقنا المبدئى الرافض للاعتراف باسرائيل. واستمر صمودنا رغم الضغوط الدولية وعدوانى 1956 و 1967، وظهرت أول ثغرة فى صفوفنا بقبولنا القرار 242 بعد عدوان 1967 والذى ينص على حق اسرائيل فى الوجود مقابل الانسحاب من أراض تم احتلالها عام 67، ولكننا لم نتوقف كثيرا حينذاك بسبب مقررات مؤتمر القمة العربية بالخرطوم الذى رفع شعار اللاءات الثلاثة: لا صلح، لا تفاوض، لا اعتراف، وبسبب انشغالنا فى الإعداد للحرب. ولكن الضربة القاسمة الأولى لفلسطين والأمة العربية، تمت بعد حرب 1973 عندما اعترفت مصر السادات باسرائيل بموجب اتفاقيات كامب ديفيد. تلا ذلك إخراج القوات الفلسطينية من لبنان عام 1982 فى ظل العدوان الصهيونى، وبدأت عملية ترويض للقيادة الفلسطينية المنفية فى تونس، وتسويتها على نار هادئة، الى ان انهارت مقاومتها وبدأت سلسلة من التنازلات انتهت باتفاقية اوسلو 1993 والتى اعترفت فيها م.ت.ف بحق اسرائيل فى الوجود وتنازلت عن فلسطين 1948. ثم الاتفاقية الاسرائيلية الأردنية، وادى عربة، عام 1994. وأخيرا انهارت مقاومة النظام الرسمى العربى ممثلا فى جامعته العربية بإصداره لمبادرة السلام العربية عام 2002 التى تقر بحق إسرائيل فى الوجود، وقبوله التطبيع معها ان هى انسحبت الى حدود 1967. وبذلك لم يبقَ من العرب الذين رفضوا قرار التقسيم عام 1947، الا الشعب العربى الأعزل المحجوب عن فلسطين، وقوة وحيدة فى الأرض المحتلة لا تزال تحمل السلاح وتقاوم هى "غزة ". إنها القلعة الأخيرة فى معركة الاعتراف باسرائيل. ان انهارت لاقدر الله، سيكون علينا أن ننتظر عقودا طويلة قبل أن نربى جيلا جديدا داخل الأرض المحتلة يرفض مشروعية اسرائيل ويعيد الاعتبار لمعركة التحرير والمقاومة، وان صمدت بإذن الله، تعثر المشروع الصهيونى بأكمله. *** ولكن ما معنى الاعتراف بإسرائيل؟؟ انه يعنى الاعتراف بمشروعية الاغتصاب الصهيونى لفلسطين، والاعتراف بصحة الأساطير الصهيونية حول الأمة اليهودية والشعب اليهودى وحقه التاريخى فى أرض الميعاد. وهو ما يعنى التسليم بالعقيدة الصهيونية فى الصراع وبالتالى تبنى رؤية عدونا فى صراعنا معه، انها الهزيمة العربية الكبرى التى يحلم بها الصهاينة منذ قرن من الزمان. وهو يعنى الاعتراف بأن الحركة الصهيونية حركة تحرر وطنى نجحت عام 1948 فى تحرير وطنها المغتصب من الاستعمار العربى الإسلامى والتى يحتفلون بذكراها كل عام فى عيد يطلقون عليه "عيد الاستقلال". وإذا كان هذا صحيحا وهو ليس كذلك فان الضفة الغربيةوغزة، هى الأخرى، وبذات المنطق، أرض يهودية مما يستوجب تحريرها عاجلا ام آجلا من الاحتلال العربى لها. وسيكون وبالقياس وجودنا نحن أيضا هنا فى مصر وجودا غير مشروعا، فنحن نمثل احتلالا عربيا إسلاميا لأراضى الغير وسيعطى الاعتراف ضوءا أخضر لكل القوى الطائفية فى المنطقة بالسعى لتكرار وتقليد التجربة الصهيونية، وإنشاء دولا محررة من الاحتلال العربى ، دولا كردية وشيعية وسنية وزنجية وقبطية ..الخ ان الاعتراف بإسرائيل فى حقيقته هو عملية انتحار جماعى، بموجبه تقرر الأمة العربية الانتحار وتعترف بأن وجودها على هذه الارض هو وجود باطل وغير مشروع على امتداد 14 قرن. ليس ذلك فقط بل ان الاعتراف بشرعية اسرائيل يعطيها كل الحق فى كل ما تفعله دفاعا عن وجودها وأمنها القومى المزعوم. فكل من لا يعترف بها يمثل تهديدا لهذا الأمن عليها ان تطارده وتصفيه اغتيالا أو اعتقالا أو نفيا أو حصارا. وتكون المقاومة الفلسطينية بالفعل إرهابا. ويكون الإرهاب الصهيونى هو دفاعا مشروعا عن النفس. إن الاعتراف هو جريمة تاريخية وعملية انتحار مجنونة، ناهيك عن كونه استسلاما للعدو. كما أن التنازل عن الأوطان ليس من صلاحيات أحد، حتى الشعوب نفسها، فالأوطان ملكا جماعيا مشتركا لكل الأجيال الراحلة والحالية والقادمة. وليس للجيل الحالى بكامله، إلا حق الانتفاع بالوطن فقط ، فليس من حقه التنازل أو التفريط أو التصرف فيه. إن هناك أكثر من 50 جيلا قبلنا ناضل وقاتل واستشهد لكى تكون هذه الأرض لنا. فلسنا نحن الذى جلبناها لانفسنا لكى نملك حق التخلى عنها. *** من هنا فان المهمة الوطنية الملحة الآن للشعب العربى فى كل مكان هى حماية القلعة المسلحة الأخيرة فى الأرض المحتلة من السقوط. وأول خطوة فى هذا الطريق هو دعمها فى مواجهة العدوان، و تحريرها من الحصار المفروض عليها لإخضاعها وكسر إرادتها وارغامها على الاعتراف بإسرائيل. وهى مهمة شعبية بالدرجة الأولى، بعد أن اعترف النظام الرسمى العربى باسرائيل وطبع ونسق وتواطأ معها لضرب آخر معاقل المقاومة وتصفية القضية. انها معركة كل الأمة وليست معركة فلسطين وحدها. *****