أهم ما يميز عرض ماراصاد والذي قدمته فرقة الطليعة من إخراج سعيد سليمان ،هو القدرة على التقاط الإمكانات المطروحة في نص بيترفايس لملامسة واقعه الآني في مصر، والابتعاد عن الوصفات المغلقة السهلة، ومن أهم تلك الإمكانات، المسافة الزمنية المطروحة بين فعل الثورة وفعل إعادة تمثيل ما هو جوهري من وقائع وأحداث فيها، ولعل تلك المسافة التي اتكأ عليها فايس وكانت بمثابة نقطة انطلاق العرض، هي ما صنعت فضاءات رحبة لتأمل كافة القوي التي صاغت ذلك الواقع بهدف الوصول إلي طبيعة و توجهات الخطابات التي قادت تلك الأحداث بطريق مباشرمن ناحية، والاشتباك مع الواقع الآني من ناحية أخرى من خلال جعل تلك المسافة الزمنية قاسمًا مشتركًا بين العالم المتخيل والواقع الفعلي لهنا الآن. فالماركيز دي صاد يصنع مسرحيته الداخلية في مصحة شارنتون للأمراض النفسية والعقلية بمجموعة من نزلاء المصحة بعد ثلاث سنوات من الثورة الفرنسية، وسعيد سليمان ينسج خيوط عرضه بعد ثلاث سنوات من الثورة المصرية، ليصبح جمهور الصالة جزءا مكونا للجمهور الافتراضي للمشهدية المسرحية والدرامية، ومن هذا المنطلق يصنع العرض منطقه وعقده الضمني في عملية التلقي. والذي جعله يخرج بوعي شديد من دائرة العروض المباشرة التي تناولت موضوع الثورة من قبل على خشبات مسرح الدولة. كما أسهم في التركيز على الوعي الضمني الذي أصبح مسيطرا على النخبة الثقافية في الآونة الأخيرة، بما يحمله من شكوك وتساؤلات متعددة حول تلك الفترة الزمنية المفصلية في التاريخ المصري، والتي نستطيع أن نختزلها في السؤال التالي: هل جاءت الثورة لإعادة تشكيل مسويات البنية الاجتماعية، أم هي مجرد إعادة إنتاج لنفس البنية الحاكمة القديمة؟ وبهذا المدخل يعمل سعيد سليمان على تنحية كافة الأداءات الكامنة في النص الأصلي والمحملة بطاقة العنف بمستوييه الجسدي والنفسي – مثل التي استخدمها بيتر بروك عند إخراجه لنفس النص – ليبقي على حالة التأمل بعقل بارد وتشي في طياتها بقدر من مشاعر الإحباط واليأس، ذلك التأمل الذي يفسر لنا تجسيد مشاهد التعذيب عبر نفيها بدلا من حضورها بشكل سادي ومرضي وهو ما نتلمسه بوضوح في مشهد تعذيب مارا/ياسر عزت. فبداية بالمادة الخام التاريخية للثورة الفرنسية، مرورًا بالبنية النصية لفايس في ستينيات القرن العشرين كمحاولة لقراءة المد الثوري العنيف من خلال دمجه المتخيل بين واقعة اغتيال جان بول مارا وإبداع المركيز دي صاد المريض بالفردية، نصل إلى ماراصاد الطليعة لإعادة قراءة الثلاث سنوات التي أعقبت الثورة المصرية، وأوجهها المتعددة، لنرصد مجموع التناقضات بين الشعارات المعلنة، والممارسة الفعلية للتيارات المختلفة، وبذلك يصنع المخرج شرعية مرور للسياق المصري إلى عوالم البنية النصية الأصلية ( عالم نزلاء المصحة ومسرحيتهم الداخلية التي يخرجها ويؤلفها الماركيز دي صاد – وعالم جان بول مارا ووقائع اغتياله بكل ما يحمله من ملابسات) لتتداخل جميعًا، وتفسح المجال لتخليق جماليات العرض المسرحي بكل ما يحمله من أداءات فنية. وبذلك تصبح الشخصيات محملة بمجموعة من الخطابات التبريرية التي يتم مقاربتها بالخطابات المصاحبة لثورة يناير ، تلك الخطابات التي ترى الثورة بمنظورها وفقا لأهدافها ومصالحها، لتموت الثورة النقية المنزهة عن كل غرض في صورة جان بول مارا الذي يرتدي زيه الأبيض على يد التيارات كافة التي يدينها العرض (الشعب ودي صاد ودوبرييه النائب الجمهوري و شارلوت). ويظهر لنا هذا التفسير بشكل واضح في الصياغة البصرية والتي قام بها صبحي عبد الجواد، والتي اعتمدت بشكل اساسي على استخدام الموتيفات الدلالية وتتسم بالحياد عبر الاكتفاء بالإشارة إلى فضاء المصحة عن طريق اللغة المنطوقة ، ونفي الفضاء النصي الأصلي المتمثل في حمام المصحة والذي أصبح لا يتناسب مع نسق العرض وفق ما تحدثنا عنه سابقًا نظرا لما يستدعيه من أداءات مرتبطة بحالات مرضية داخل النفس الإنسانية، فنحن أمام مجموعة من الموتيفات أقرب في خاماتها إلى البيئة المصرية مثل الأقفاص والخوص، إلى جانب بعض الموتيفات الأخرى التي يتم توظيفها للتأويل المشهدي مثل موتيفة الأرجوحة التي تتأرجح عليها كوردي/فاطمة محمد علي قبل أن تعزم على فعل القتل بشكل نهائي بدافع من الهوس الديني. ومن العناصر المهمة أيضا التي دخلت في نسيج تصور العرض النهائي، عنصر الأغاني التي لحنها محمد الوريث وصاغ كلماتها بالعامية المصرية مصطفى سليم، وتم عزفها بشكل حي على جوانب خشبة المسرح في العمق باستخدام مجموعة من الآلات الشرقية وهي العود والدفوف والناي، حيث دعمت مجموعة من اللحظات الدرامية التي توزعت بين الحماسة التي ينقلها مارا للجموع، والرثاء عليه، والمعاناة التي يتعرض لها الشعب. وقد جاء التمثيل متسقًا مع العناصر المصاحبة له حيث تم خفوت مشاهد الجنون لصالح إبراز الأزمات النفسية التي تمر بها الشخصيات وصراعاتها من أجل تحقيق الثورة بما يتواءم مع رغباتها الذاتية، ولعل ساعد في ذلك الاختيار الموفق لمجموعة من الممثلين الذين كانوا على وعي بما يقومون به نظرا لنضجهم الذي جعلهم يبتعدون عن السقوط في هوة الأصوات الانفعالية والحفاظ على خطوط الشخصيات وأبعادها الجوهرية المشتبكة مع الواقع، وظهر ذلك في شخصية جان بول مارا الذي قام بها الفنان ياسر عزت، وماركيز دي صاد / معتز السويفي الذي اتسم بالرصانة والعمق في أدائه ، وولاء فريد في أدائها لشخصية الراوي التي حاولت أن تعطي حميمية للشخصية من خلال ملامح المنادي الشعبي، وناجح نعيم في شخصية المدير الذي عكس من خلال أدائه المرض الذي تعاني منه السلطة المتحكمة في هذا العالم .