علي مر التاريخ، كانت كل جماعة بشرية تتجمع في مكان ما، تضع لنفسها معايير مستمدة من لحظتها الزمنية لتسير عليها وتتميز بها وتصير مع الزمن تقاليد خاصة بها، سرعان ما تقيد حركتها المتقدمة للأمام فتغيرها مختارة معايير جديدة لها تتحول بفعل الزمن لتقاليد وهكذا يصنع الإنسان تقاليد جماعته ويغيرها بتغير الزمن، فلا توجد تقاليد مقدسة ولا تقاليد مدنسة، بل توجد تقاليد عفي عليها الزمن وصارت مقيدة لحركة المجتمع، وأخري جديدة تحمي المجتمع وتساعد علي تقدمه، وتقف دوما إلي جانب حريته في التفكير والتعبير والاختيار. من هنا تتأسس الديمقراطية الحقة علي مبدأ الحرية، حرية الفكر والعقيدة والإبداع، دون تخوين أو إدانة أو إقصاء، والمدهش أننا جميعا نتمسك بهذه الديمقراطية ولا أحد يتبرأ منها، حتي ألد أعدائها يستخدمونها للوصول إلي أهدافهم، فقبل ثورة يوليو 52 كانت توجد ديمقراطية السادة الملاك، والحفاة يمتنعون، وبعد 52 كانت ديمقراطية تحالف الشعب العامل ولا حرية لأعداء الشعب، وبعد انقلاب مايو 71 كانت ديمقراطية "أبو العائلة" والأحزاب العائدة من متحف التاريخ، فصارت ديمقراطية الحزب الأوحد الذي يمتلك مفاتيح المستقبل، ثم أضحت بعد ثورة يناير ديمقراطية جماعات الإسلام السياسي التي تملك مفاتيح الفردوس. وفي كل الأحوال، كانت للتقاليد المصنوعة القدح المعلي بيد القوي الحاكمة في الإطاحة بهذه الديمقراطيات، باسم حماية المجتمع من الغزو الفكري أو الأفكار الهدامة التي يراها المتخلفون مفتتة لبنية الأسرة ومزعزعة لقيم الجماعة ومستحدثة في مجتمع يجب أن يسكن في تابوت الأمس البعيد. إن قراءة الواقع الذي نعيشه، والعالم المحيط بنا، يجعلنا، أو يجب أن يجعلنا، ننتبه إلي الغد القادم لا محالة، والذي تصنعه اليوم قوي متحجرة تتمسح بالنهضة لتعيد أزمنة خلت، باعتبار النهضة هي بعث القديم واستعادة تقاليده، فكما أشرنا في مقالنا السابق إلي أننا قد نري في حاضر بلدان مستقبل أيامنا، بناء علي أن المقدمات المتشابهة تؤدي لنتائج متشابهة، نجد بين أيدينا اليوم حادثة علي جانب كبير من الخطورة، مجرد مسرحية كتبها عالم النفس والكاتب الروائي والمسرحي التشيلي "ماركو أنطونيو دي لا باررا"، وتدور أحداثها في العاصمة سانتياجو، في زمن الجنرال الديكتاتور "بينوتشيه" الذي قام - مدعوما بالولايات المتحدةالأمريكية - بانقلاب علي نظام الرئيس المنتخب "سلفادور الليندي" واغتاله بسبب وقوفه إلي جانب الفقراء، وضد مصالح الرأسمالية الأمريكية والتشيلية معا. خصخصة المسرح وهو النص الذي يثير ضجة حاليا في تركيا، باعتباره جارحا للتقاليد التركية، بعد أن قدم بفرقتين تركيتين، الأولي صغيرة وشاركت بالعرض في ليلة عابرة بأحد المهرجانات، والثانية التي أثارت الضجة بعرضها مع الحكومة وحزب العدالة والتنمية الحاكم هي الفرقة الرسمية ب (مسرح المدينة) ببلدية اسطنبول، وأدي عرضها الناجح لهذا النص، والذي حقق سبعين ليلة عرض ما بين فبراير وأبريل الماضيين، للإطاحة بالفنانين المديرين للفرق الرسمية التابعة للدولة، وتعيين موظفين ينفذون أوامر الحكومة، وتهديد الحكومة بخصخصة المسرح، إذا ما ظل الفنانون علي إصرارهم علي التمسك بحرية الإبداع، بحجة أن الفنان الحر يتحمل مسئولية حرية فنه، أما الدولة فهي تدعم الفن الذي يدافع عنها وعن أفكارها فقط ويحافظ علي التقاليد التي يدافع عنها الحزب الحاكم، في إطاحة واضحة بأية شعارات ديمقراطية تؤمن بحق الجميع في الإبداع والتعبير، وأن المؤسسة التنفيذية لابد ألا تكون منحازة لأيديولوجية حزبها، بل تدع كل الزهور تتفتح. العنوان المراوغ كما صاغ الكاتب الألماني "بيتر فايس" عام 1964 في مسرحيته التسجيلية الشهيرة والمختصر اسمها إلي (مارا صاد) لقاء متخيلا في إحدي المستشفيات بين اثنين لم يلتقيا علي أرض الواقع، هما الصحفي الراديكالي والكاتب السياسي خلال الثورة الفرنسية "جان بول مارا"، والأرستقراطي الثوري المركيز "دي صاد"، لمناقشة رؤيتين للعالم، إحداهما تتمسك بالجماعية الكاملة، والأخري تغرق في الفردية المطلقة، تصور الكاتب التشيلي "دي لا باررا" عام 1984 لقاء في إحدي الحدائق الأنيقة بين أشهر أيقونتين من أيقونات القرن العشرين وهما عالم النفس التحليلي "سيجموند فرويد" والمفكر الاقتصادي "كارل ماركس"، صاحبا أهم ثورتين فكريتين في القرن العشرين، مقدما إياهما علي طريقة المسرحي الأمريكي "إدوارد أولبي" في مسرحيته (قصة حديقة الحيوان)، بتخيل وجود حديقة ما، يوجد بها مقعد وحيد، يدخل في البداية رجل وقور يرتدي معطفا واقيا من المطر، يكتشف الجمهور بعد ذلك أنه لا يرتدي بنطلونا تحت المعطف مما يثير الضحك والسخرية منه، وهو ما يذكرنا بمشهد المجنون المتخفي في هيئة طبيب أنيق والذي قدمه الممثل الرائع "عبد المنعم إبراهيم" في فيلم (إسماعيل يس في مستشفي المجانين)، وهي إحدي مفارقات الفودفيل الشهيرة. يجلس الرجل علي المقعد، ثم يدخل آخر بنفس زيه وهيئته متشاحنا مع الأول، ويبدو الاثنان في صراعهما وشهيقهما وزفيرهما ككلبين من الكلاب الجارحة، يتناطحان ويتشاجران ليحتل كل واحد منهما المقعد بمفرده، كأنه الأولي به، ويدخلان في صراع فكري ومناظرة عميقة بين نظرية التحليل النفسي والمادية الجدلية، بحثا بدأب عن أسباب الشر والظلمة في مجتمعنا الراهن، غير أن طريقة المعالجة المتعمدة يبدو معها الحوار بين الفكرين في صورة تجعل المتلقي غير قادر علي الإمساك بحقيقة كل واحد، ومن ثم الاقتناع بفكره. في مسرحية هجائية لجمهور اليوم الذي فرغ الأيديولوجيات من أسسها الفكرية، وعبر بناء استعاري مليء باللعب والمرح والفكاهة والتذكر، يدور حدثه الدرامي داخل المجتمع التشيلي الرازح في ثمانينيات القرن الماضي تحت أشد الأنظمة الديكتاتورية، فينشغل الفرويديون بتفسير الأحلام، وينهمك الماركسيين بالتخطيط للانقلابات والهجمات المضللة، بينما الديكتاتوريون يهيمنون علي كل مؤسسات الدولة التشريعية والتنفيذية، وتتفجر السخرية من التناقض بين صورتي الشخصيتين المثاليتين في الواقع وتجسيدهما كوغدين كاريكاتوريين علي المسرح، ومن معطفيهما دون سراويل، واللذين قد يوحيان عند البعض بدلالة خواء ما تحت الرداء الخارجي المتين الظاهر للعيان، ومن التشكيك بكونهما بالفعل "فرويد" و"ماركس" وليسا مجنونين، ومن كلمات الحوار مزدوجة المعني، والتي تعني الشيء ونقيضه، ومن مفارقة المواقف بين إعلاء الحرية في نظام مصادر للحريات، من كل هذا يسري المجون المصنوع بحوارهما الفكري وكلماتهما مزدوجة المعاني. المجون الفكري منح مجون الشخصيتين الفكري المسرحية اسمها المثير (المجون السري اليومي)، أو كما جاء في الترجمة التركية (أسرار يوم بذيء)، وأثار هذا العنوان المراوغ الضجة التي حدثت في تركيا، بعدما هاجمها الصحفي المحافظ "إسكندر بالا" بجريدته المعبرة عن الإسلام التقليدي (زمان)، مهاجما المسرحية، ومرتئيا - كما نقلت جريدة (لا ترثيرا) الاليكترونية - أن العرض يقدم "الابتذال بأيدي الدولة"، رغم اعترافه فيما بعد أنه لم يشاهد العرض، بل فقط قرأ موضوع النص !!، وهو موضوع لا علاقة له بأي ابتذال أخلاقي، وإن دخل في إطار المجون الفكري بين رؤيتين للحياة غيرا وجه العالم خلال القرن الماضي، فجذبت الفرويدية النظر للإنسان من محيطه الاجتماعي لعالمه النفسي السري، ودمجت أفكاره بأحلامه، وأرجعت سلوكه الظاهر لهواجس لاوعيه ومكبوتاته، بينما راحت الماركسية تؤكد علي علاقة الإنسان بواقعه الاجتماعي، وربطت سلوكه بصراع الطبقات في مجتمعه، في صورة قد تبدو متناظرة مع موقفي الحياة في مسرحية "بيتر فايس" المذكورة سلفا، فالتنازع الفكري بين ذاتية الفرد وجماعية الحياة، يظل شاغلا للعقل البشري، لكنه أبدا لا يطيح بالفنان المبدع، والمفكر الواعي، والإنسان المستنير. وهو ما نخشاه علي مجتمعنا في أيامنا القادمة، فلا أحد وحده يمتلك اليقين الكامل، والتقاليد صناعة بشرية، لابد وأن نغيرها كل لحظة بما يسمح للمجتمع بالتقدم، والحوار الخلاق بين كل الاتجاهات هو وحده الكفيل بنهضة المجتمع، أما خصخصة الثقافة والفن والمسرح في دولة مازالت تعاني من الأمية الأبجدية والثقافية، فهو يعني القضاء علي حق المواطن في المعرفة وفي الحوار وفي ارتقاء الوعي، وهي ليست مهمة التاجر المثمن للسلعة، بل وظيفة المثقف المستنير في المجتمع، ومسئولية الدولة التي تريد أن تنهض بمجتمعها.