يعيش العراق تحت وطأة أزمة سياسية خانقة وسط عصف التحدي الكياني الذي يثيره خطر الإرهاب التكفيري بالتزامن مع صعود نزعات الانفصال التقسيمية وغير بعيد عن خطط استعمارية غربية تناسب التطلع الصهيوني المزمن والمتأصل منذ قرن على الأقل لتدمير قوة العراق ومنع نهوضه شريكا لسورية في مشرق عربي مقاوم للصهيونية ومشاريعها. أولاً: تقود الدراسة العلمية للمواقف والخيارات السياسية إلى أن خطوط الانقسام الطائفي والعرقي هي في الواقع خطوط افتراضية رسمها دستور بريمر ليبقى العراق ممزقا وضعيفا وليتجدد التناحر في واقعه السياسي فيستحيل تبلور كتلة شعبية قوية قادرة على فرض وبناء دولة وطنية قوية. تباهى بعض الساسة العراقيين في زمن الاحتلال باستعارة النموذج اللبناني وهم في الواقع ما كانوا يستعيرون سوى قنبلة متفجرة يتجدد اشتعال فتائلها كلما اهتزت المنطقة او اختلت معادلات الداخل او الخارج او تزامنت حركة كلتيهما في التحول فالنظام اللبناني بقسمته الطائفية كان تركة الاستعمار الفرنسي التي أشرعت أبواب التدخل الخارجي وجعلت مصير الاستقرار في البلاد رهنا بالمتغيرات الإقليمية والدولية بل وجعلت من لبنان ساحة لتصفية الحسابات على حسابه في أحيان كثيرة لأن التوزيع الطائفي لمواقع السلطة والقرار ظل مولدا مستمرا للعصبيات حتى عندما يكون التراصف السياسي الواقعي عابرا للطوائف كما هي الحال اليوم على سبيل المثال لكن تكوين هذا النظام السياسي احكم سد بواباته في وجه أي تعبيرات وطنية جامعة. ثانياً: ثمة نقطة بداية للبحث عن الشركاء والنظراء في واقع العراق المتعدد ولإنشاء استقطاب جديد عابر للمكونات الوطنية كما درجت العادة على القول مؤخرا. تلك النقطة تنطلق من تخطي الانقسام الافتراضي بالعودة إلى الجذور المكونة للنزعة الوطنية العراقية والمعبرة عنها وفي مقدمتها قضية الاستقلال الوطني وتجربة مقاومة الاحتلال الأميركي التي شكلت في تاريخ العراق الحديث نقطة فاصلة للفرز السياسي وإذا استرجعنا المحطات التاريخية للقتال ضد الغزاة الأميركيين لأمكن تمييز مجموعة من الفصائل الوطنية العراقية التي انخرطت في المقاومة وقدمت الشهداء والتضحيات ولم تتلوث بوحول الجرائم الطائفية والمذهبية التي نفذها القاعديون والتكفيريون وفي صدارتهم تنظيم "الخليفة البغدادي" الذي لم تجد سائر وسائل الإعلام العالمية بداية معلومة لمسيرته "الجهادية" غير مأثرة المقتلة الكبرى من التفجيرات التي أوقعت في يوم واحد اكثر من مئة قتيل عراقي بينما لم يرد في سيرته أي ذكر لمقاتلة الاحتلال ومع الشبهات التي رواها الشيخ نبيل نعيم احد مؤسسي القاعدة في أفغانستان تتوضح خيوط كثيرة في خلفية تلك الحقيقة. ثالثاً: إن من يريد عملية سياسية لمستقبل العراق عليه ان يسعى إلى حوار بلا شروط بين المقاومين العراقيين الذين كان لهم شرف المشاركة في طرد الاحتلال ومن هؤلاء بعثيون وضباط وجنود وطنيون قاتلوا المحتل وسطروا بطولات مشهودة إلى جانب العديد من فصائل المقاومة المنتمية إلى كتائب حزب الله وعصائب أهل الحق وجيش المهدي وسواها من التشكيلات المقاومة التي تم تحجيم أدوارها ومواقعها في الحياة السياسية العراقية مسايرة للولايات المتحدة وبوهم الاجتثاث المستحيل لتيار فكري ثقافي تجذر لسبعين عاما في المجتمع العراقي. لقد أخذ العراقيون إلى ثقافة الانتقام والتصفية الإلغائية بتدبير استعماري بدلا من ثقافة الفرز والاحتواء وتصرف بعض الزعماء والقادة بحس انتقامي وبوهم الاقتدار والاستقواء بعيدا عن الاهتمام بمعضلة الوحدة الوطنية للشعب التي هي القاعدة البديهية لنهوض الأوطان ولنسج الهويات الوطنية فحتى الأقلية الضئيلة العاجزة حين تضطهد تصبح بؤرة جاهزة للاستقواء بالخارج ومولدا مستمرا للتمرد والإرهاب كما تبين جميع التجارب فكيف بكتلة وازنة من المجتمع العراقي تنتمي إلى ثقافة العروبة والبعث التي تميزت تاريخيا بكونها عابرة للطوائف رغم الجرعة الدينية التي أضفاها الرئيس السابق صدام حسين على هوية نظامه السياسي في السنوات الأخيرة لحكمه الذي تحول إلى رهينة للغرب والدائرين في فلكه منذ قبوله لوظيفة شن الحرب ضد الجمهورية الإسلامية الإيرانية . إذا قيض لحوار المقاومين العراقيين ان ينطلق ستكون حصيلته مصالحة مع الذات وقراءة نقدية في تاريخ العراق المعاصر والأهم إعادة تأسيس للوطنية العراقية على أرض العروبة الصلبة المناهضة للاستعمار والصهيونية.