عندما قامت الثورة الإيرانية تلقت أمريكاً درساً قاسياً قررت من بعده أن لا تترك هذا السيناريو يتكرر معها مرة أخرى، لقد كان شاه إيران الابن المدلل لأمريكا وحليفها الاستراتيجي الذي لا يقل أهمية عن إسرائيل في الحفاظ على المصالح الأمريكية في المنطقة، لذلك تجاهلت واشنطن المعارضة الإيرانية فضاعت منها إيران إلى غير رجعة. منذ تلك الحادثة والهزيمة السياسية الأمريكية، قررت واشنطن أن تبقي أبوابها مشرعة أمام القادة من عملائها والمعارضة أيضاً حتى تمسك بجميع أطراف اللعبة خصوصاً في الدول التي تمثل نقاط ارتكاز لها بالمنطقة، وهذا ما حدث في مصر، فرغم أن مبارك كان أفضل رجال أمريكا في المنطقة والحارس الوفي لمصالحها ولمصالح إسرائيل فأن هذا لم يمنعها من فتح قنوات اتصال مع المعارضة وبشكل خاص جماعة الأخوان المسلمين بصفتهم القوة الأكثر تنظيماً وتأثيرا في ظل وجود أحزاب المعارضة الكرتونية الهشة التي ادمنت العيش على فتات ما يلقيه إليها النظام بعد أن تم اختراقها وتفتيتها. لذلك فأنه وإن كانت الثورات العربية نتاج نضال وطني خالص لتلك الشعوب إلا أن من يجني الثمار الآن هم قوى الإسلام السياسي وفق سيناريو أمريكي يريد استبدال الأنظمة السابقة بأخرى مروضة تتمتع بقدر ما من الشعبية والتنظيم، تربطها بها علاقات بشكل أو بأخر، فما يهم واشنطن أن لا تتحول تلك الثورات إلى حراك ديمقرطي حقيقي يسفر عن دولة مؤسسات حقيقية بما يعني تقدم وتطور على مختلف المستويات ومن ثم زوال تلك الوصاية الأمريكية والتعامل بمنطق الند للند بما يعني خسارة أمريكا لحلفاء طالما اعتمدت عليهم في فرض سيطرتها على المنطقة. و هل يستطيع محلل محايد ثاقب النظرة أن يقول لنا ما هي مصلحة حلف الأطلنطي بقيادة واشنطن في سقوط نظام القذافي ودخول الحلف بكل قوته الجوية ومساعداته اللوجستية لثوار ليبيا، هل هؤلاء يقدمون لنا شيئاً مجانياً؟، وما هي طبيعة العلاقة بين بعض قادة السلطة في ليبيا الآن وحلف الأطلنطي وماذا دار في كواليس اللقاءات بينهما، وعلى أي شيء اتفقوا وما هو الدور الأمريكي في كل ذلك؟ أنا لا اشكك إطلاقا في نقاء ووطنية الثورات العربية لكني أضع بعض التساؤلات عن دور حلف الأطلنطي والولايات المتحدة فيما يتم حالياً من محاولة لسرقة الثورات العربية؟ ربما لا يجد البعض إجابات على تلك الأسئلة لكن المستقبل سوف يكشف الكثير مما يدور خلف الكواليس، وساعتها سوف يتعرى وينكشف الكثيرون من أدعياء الثورية والوطنية الباحثين على السلطة على أشلاء الوطن. ما يحدث الآن يقودنا إلى سيناريو أوسع وأشمل يهدف إلى تفكيك الثورة المصرية، وهو حتى الآن ناجح بامتياز ويكشف عن أن هناك أياد تعبث بمنجزات الثورة واستطاعت بالفعل أن تحقق الكثير من أهداف ذلك السيناريو ومن ينظر إلى الخلف قليلاً منذ اندلاع شرارة الثورة حتى الآن يجد أن الأسابيع الأولى حملت روحاً وطنية متماسكة وتفاؤلاً منقطع النظير سرعان ما تحول في ظل مخطط التفكيك إلى معضلات وكوابيس حولت ذلك التلاحم إلى فتنة وطنية ودينية وسياسية، وأزاحت ذلك التفاؤل العارم إلى إحباط شديد أصاب قطاعات كبيرة من المجتمع وترك الحبل على الغارب لشيوع روح الجهل والتعصب وغياب الحوار الموضوعي ووضع الوطن بأكمله على المحك، فأصبحنا نضع أيدينا على قلوبنا خوفاً من المفاجآت المريرة التي قد تسفر عنها الأيام المقبلة في ظل جشع بعض القوى والأحزاب والجماعات التي ركبت قطار الثورة من أجل الاستيلاء عليه وتسخيره لمصالحها في ظل ظمأها الشديد للسلطة. ولعل ما شهدته مصر خلال الأيام الماضية يكشف الأقنعة عن السيناريو الأمريكي تجاه مصر الذي اعتمد على تقاسم السلطة بين المجلس العسكري وجماعة الإخوان المسلمين مع استخدام بعض الأحزاب الكرتونية الضعيفة مثل حزب الوفد وغيرها من الأحزاب الضعيفة كديكور لتجميل الصورة. كما يكشف إصرار جماعة الأخوان المسلمين على إجراء الانتخابات البرلمانية الآن عن أن المخطط اكتمل وتم بالفعل تقسيم غنائم الثورة، ولكن غرور الجماعة وأطماعها في الاستيلاء بالكامل على السلطة وتقزيم دور العسكر نتج عنه مليونية الجمعة الماضية التي كانت رسالة من الإخوان بأنهم قادرون على إحراج العسكر مستعرضين قوتهم في لحظة ” مساومة ” مع العسكر على أكبر قدر من الغنائم، وهذا ما لخصه الإخوان عند انسحابهم من الميدان بقولهم “الرسالة وصلت”، لكن انقلب السحر على الساحر وأدى العنف المفرط في سحق بضع مئات من مصابي الثورة وبعض النشطاء إلى عودة الحياة إلى القوى الثورية الحقيقية التي فشلت معها كل محاولات العسكر خلال الأيام الماضية والذين مارسوا عنفاً تجاوز بكثير الجرائم التي ارتكبها المخلوع وزعيم عصابته العادلي. ولم يكن خطاب المشير طنطاوي مستغرباً ولا مفاجئاً، لأنه ليس أمام العسكر إلا خيارين إما أن يتركوا السلطة ويفشل المخطط الأمريكي ومن ثم تكون هناك سلطة مدنية حقيقية ودولة مؤسسات وفي هذه الحالة تضيع كافة حسابات الإخوان وأمريكا، أو أن تستمر في تنفيذ المخطط الأمريكي، وهو ما لن تستطيع النجاح فيه بعدما تجاوزت الأحداث كل إمكانيات العسكر والإخوان لتشتعل الثورة الثانية التي تنبأ بها الخال الشاعر عبد الرحمن الأبنودي أن تحدث بعد عام أو أعوام لكنها جاءت مبكرة ومباغتة لأعدائها لتعود الشرعية مرة أخرى إلى الميدان. والسؤال الآن هل تستطيع جماعة الإخوان أن تكشف عن حقيقة الاتفاقات التي تمت مع العسكر، وهل هناك من يستطيع أن يكشف لنا خريطة تقسيم “تورتة” الثورة بين الطرفين بعدما قاما مع الفلول بتشويه سمعة القوى الثورية الحقيقية رغم أن لجنة تقصي الحقائق برأت هذه القوى وأدانت بعض الحركات السلفية بتلقي الأموال من تيارات خليجية وهو الأمر الذي نشرته بعض الصحف الخليجية بالأرقام ومنها صحيفة السياسة الكويتية منذ أيام، وهل يستطيع الإخوان أن يكشفوا لنا مصادر تمويلهم وممتلكاتهم وشركاتهم أم أنهم فوق القانون؟ لقد آن الآوان أن يتم تشكل مجلس ثوري مدني لإدارة البلاد يتكون من شخصيات سياسية وطنية مثل الدكتور البرادعي والدكتور عبد المنعم أبو الفتوح وأيمن نور وحمدين صباحي وحسام عيسي وغيرهم لنبدأ بداية حقيقية من أول السطر بعيداً عن تلك الفوضى التي عاشت فيها مصر في ظل حكم العسكر وليتراجع العسكر عن الصفوف الأمامية ويعودوا إلى ثكناتهم ويتفرغوا لحماية الحدود بعدما فقدوا الكثير من مصداقيتهم، وهو أمر ليس بحاجة إلى استفتاء شعبي فلم يتسلموا السلطة باستفتاء شعبي بل جاؤوا لتصريف مصالح على وقع طبول الثورة التي لم يشاركوا فيها أو يحموا ثوارها كما يزعم البعض. وعلى الثوار عدم تكرار الخطأ القاتل الذي ارتكبوه عندما تركوا الميدان وتركوا الثورة نهباً مباحاً لقوى التسلق والتملق التي لا يهمها سوى مصالحها الضيقة ولو على حساب بحر من دماء الشهداء وانين مصابي الثورة الذين أهينوا وضاعت كرامتهم على مدار الشهور العشرة الماضية. لقد انطلقت شرارة الثورة الثانية ولن يستطيع أحد أن يخمدها مرة اخرى فلقد تعلمنا الدرس واستوعبناه جيداً ولا يصح إلا الصحيح ولا بديل لثورة كاملة متكاملة على ارض الواقع بعيداً عن المتسلقين الباحثين عن السلطة والمتعطشين لها أصحاب الصفقات السياسية المشبوهة والمتحالفين مع أمريكا وإسرائيل.