"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً" "وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُمِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ" "قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ" قالوا تصان البلاد ويحرس الملك بالبروج المشيدة والقلاع المنيعة والجيوش العاملة والأهب الوافرة والاسلحة الجيدة، قلنا نعم، هى أحراز وآلات لابد منها لعمل فيما يقى البلاد، ولكنها لاتعمل بنفسها ولا تحرس بذاتها فلا صيانة بها ولا حراسة إلا أن يتناول أعمالها رجال ذوو خبرة وأولوا رأى وحكمة، يتعهدونها بالأصلاح زمن السلم، ويستعملونها فيما قصدت له زمن الحرب، وليس بكاف حتى يكون رجال من ذوى التدبير والحزم وأصحاب الحذق والدراية يقومون على سائر شئون المملكة يوطئون طريق الأمن ويبسطون بساط الراحة، ويرفعون بناء الملك على قواعد العدل، ويوقفون الرعية عند حدود الشريعة؛ ثم يراقبون روابط المملكة مع سائر الممالك الأجنبية يحفظون لها المنزلة التى تليق بها بينها، بل يكونوا أهل القيام على هذه الشئون الرفيعة حتى تكون قلوبهم فائضة بمحبة البلاد، طافحة بالرحمة والشفقة على سكانها وحتى تكون الحمية ضاربة فى نفوسهم آخذة طباعهم يجدون فى أنفسهم منبها على ما يجب عليهم، وزاجرا عمالا يليق بهم غضاضة وألما موجعا عند ما يمس مصلحة المملكة ضرر، ويوجس عليهم من خطر ليتيسر لهم بهذا الاحساس وتلك الصفات أن يؤدوا أعمال وظائف كما ينبغى ويصوها من الخلل الذى ربما يفضى قليله إلى الفساد كبير فى الملك، فهؤلاء الرجال بهذه الخلال هم المنعة الواقية والقوة الغالبة. ويسهل عل حاكم فى أى قبيل أن يكتب الكتائب، ويجمع الجنود، ويوفر العدد من كل نوع، بنقد النقود وبذل النفقات، ولكن من أين يصيب بطانة من أولئك الذين أشرنا أليهم، عقلاء رحماء أباة أصفياء، تهمهم حاجات الملك كما تهمهم ضروارات حياتهم، لابد أن يتبع فى هذا الأمر الخطير قانون الفطرة ويراعى ناموس الطبيعة فإن متابعة هذا الناموس تحفظ الفكر من الخطأ وتكشف له خفيات الدقائق وقلما يخطئ فى رأيه أو يتأود فى عمله من أخد به دليلا وجعل له من هديه مرشدًا، وإذا نظر العاقل فى أنواع الخطأ التى وقعت فى العالم الإنسانى من كلية وجزئية وطلب أسبابها ولم يجد لها من علة سوى الميل إلى قاون الفطرة والانحراف عن سنة الله فى خلقه. ومن أحكام هذا الناموس لثابت أن الشفقة والمرحمة والحمية والنعرة على الملك والرعية، إنما تكون لمن له فى الأمة أصل راسخ ووشيج يشد صلته بها، هذه فطرة فطر الله الناس عليها، إن الملتحم مع الأمة بعلامة الجنس أو المشرب يراعى نسبته إليها ونسبتها إليه ويراها لا تخرج عن سائر نسبه الخاصة به فيدافع الضيم عن الداخلين فى تلك النسبة دفاعه عن حوزته وحريمه "راجع رأيك فيما تشهده كثيرًا حتى بين العاملة عند ما يرمى أحدهم أهل البلد الآخر أو دينه بسوء على وجه عام، كسورى ينتقد المصريين أو مصري ينتقد السوريين" هذا إلى ما يعلمه كل واحد من الأمة من أن ما تناله أمته من الفوائد يلحقه حظ منها ويصيبها من الارزاء يصيبه سهم منه خصوصًا إن كان بيده هامات أمورها، وفى قبضته زمام التصرف فيها، فإن حظه من المنفعهة أوفر ومصيبته بالمضرة أعظم، وسهمه من العار الذى يلحق الأمة أكبر فيكون اهتمامه بشئون الأمة التى هو منها، وحرصه على سلامتها ما يؤمله من المنفعة أو يخشاه من المضرة. فعلى ولى الأمر فى المملكة أن لا يكل شيئًا من عمله الا أحد رجلين: أما رجل يتصل به جنسية سالمة من الضعف والتمزيق موقرة فى نفوس المنتظيمن فيها محترمة فى قلوبهم يحملهم توقيرها واحترامها على التفانى فى قايتها من كل شين يدنو منها ولم توهن روابطها اختلافات المشارب والأديان وأما رجل يجتمع معه فى دين قامت جامعته مقام الجنسية بل فاقت فى القلوب منزلتها، كالدين الإسلامى الذى حل عند المسلميين وان اختلفت شعوبهم، محل كل رابطة نسبية فإن كلا من الجامعتين "الجنسية على النحو السابق والدينية" مبدآن للحمية على الملك ومنشأن للغيرة عليه. أما الأجانب الذين لا يتصلون بصاحب الملك فى جنس ولا فى دين تقوم رابطتهم مقام الجنس فمثلهم فى المملكة كمثل الأجير فى بناء بيت لا يهمه الا استيفاء أجرته، ثم لا يبالى أسلم البيت أو جرفه السيل او دكته الزلازل هذا إذا صدقوا فى أعمالهم يؤيدون منها بمقدار ما يأخذون من الأجر واقفين فيها عند الرسم الظاهر؛ فإن الواحد منهم لا يشرف بشرف الأمة الذى هو خادم فيها ولا يمسه شئ مما يمسها من الضعة، لانه منفصل عنها اذا فقد العيش فيها فارقها وارتد إلى منتبه الذى ينتسب اليه، بل هو فى حال عمله وخدمته يغير جنسه لاصق بمنبته فى جميع شئونه، ما عدا الاجر الذى يأخذه، وهو معلوم ببداهة العقل فلا يجد فى طبيعته ولا فى خواطر قلبه ما يبعثه على احذر الشديد مما يفسد الملك، أو الحرص الزائد على ما يعلى شأنه، بل لا يجد باعثا يبعثه على الفكر فيما يقوم مصلحته من أى وجه هذه حالهم هى لهم بمقتضى الطبيعة لو فرضنا صدقهم وبرائته من أغراض أخر فما ظنك بالأجانب لو كانوا نازحين من بلادهم فرارًا من الفقر والفاقة وضربوا فى أرض غيرهم طلبًا للعيش من أى طريق، وسواء عليهم فى تحصيله صدقوا أو كذبوا وسواء وفوا أو قصروا وسواء راعوا الذمة أو خانواأو كانوا مع هذا كله يخدمون مقاصدهم لأممهم ، يمهدون لها طرق الولاية السيادة على الأقطار التى يتولون الوظائف فيها "كما هو حال الأجانب فى المالك الإسلامية لا يجدون فى أنفسهم حاملاً عى الصدق والأمانة ولكن يجدون منها الباعث على الغش والخيانة" ومن تتبع التواريخ التى تمثل أحوال الأمم الماضيةوتحكى لنا عن سنة الله فى خليقته وتصريفه بشئون عبادة رأى أن الدولة فى نموها وبسطتها ما كانت مصونة إلا برجال منها يعرفون لها حقها كما تعرف لهم حقهم وما كان شئ من أعمالها بيد أجنبي عنها، وإن تلك الدول ما انخفض مكانها ولا سقطت فى هوة الانحطاط الا عند دخول العنصر الأجنبي فيها، وارتقاء الغرباء إلى الوظائف السامية فى أعمالهم فان كان فى كل دولة آية الخراب والدمار وخصوصًا إذا كان بين الغرباء وبين الدولة التى يتناولون أعمالها منافسسات وأحقاد مزجت بها دمائوها وعجنت بها طينتهم من أزمان طويلة. نعم كما يحصل الفساد فى بعض الأخلاق والسجايا الطبيعية لسبب العوارض الخارجية كذلك يحصل الضعف والفتور فى حمية أبناء الدين أو الأمة، ويطرأ النقصعلى شفقتهم ومرحتهم فينقص بذلك اهتمام العظماء منهم بمصالح الملك إذا كان ولى الأمر لا يقدر أعمالهم حق قدرها وفى هذه الحالة يقدمون منافعهم الخاصة على فرائضهم العامة فيقع الخلل في نظام الأمة ويضرب الفساد ولكن ما يكون من ضرره أخف وأقرب إلى التلاقى من الضرر الذى يكون سببه استلام الأجانب لهامات الأمور فى البلاد، لأن صاحب الحمة فى الأمة وأن مرضت أخلاقه واعتلت صفاته الا أن ما أودعته الفطرة وثبت الحيلة لا يمكن محوه بالكلية، فإذا أساء فى عمله مرة أزعجه من نفسه صائح الوشيحة الدينية أو الجنسية فيرجع إلى الأحسان مره أخرى وان ماشد القللب من علائق الدين أو الجنس لا يزال يجذبه أوانه بعد آوانه لمراعتها والالتفات اليها ويميله إلى المتصلين معه بتلك العلائق وإن بعدوا . لهذا يحق لنا أن نأسف غاية الأسف على أمراء الشرق، وأخص من بينهم أمراء المسلمين حيث سلموا أمورهم ووكلوا أعمالهم من كتابة وإدارة وحماية للأجانب عنهم، بل زادوا فى موالاة الغرباء والثقة بهم حتى ولوهم خدمتهم الخاصة بهم، فى بطون بيوتهم، بل كادوا يتنازلون عن مملكتهم فى ممالكهم بعد ما رأوا كثرة المطامع فيهم لهذا الزمان وأحسوا بالضغائن والأحقاد الموروثة من أجيال بعيدة وبعد ما علمتهم التجارب أنهم إذا أئتمنوا خانوا وإذا عززوا هانوا، يقابلون الأحسان بالإساءة والتوقير بالتحقير والنعمة بالكفران ويجازون على القمة باللطمة والركون اليهم بالحفوة والصلة بالقطيعة والثقة فيهم بالخدعة، وأما آن لأمراء الشرق أن يدينوا لاحكام الله التى لا تنقض، ألم يأن لهم أن يرجعوا إلى حسهم ووجدانهم، ألم يات وقت يعلمون فيه بما أرشدتهم الحوادث ودلتهم عليه الرزايا والمصايب، ألم يكن لهم أن يكفوا عن تخريب بيوتهم بأيديهم وأيدى أعدائهم؟! الا أيها الأمراء العظام ما لكم ولاجانب عنكم "ها أنتم تحبونهم ولا يحبونكم"قد علمتم شأنهم ولم تبق ريبة فى أمرهم " أن تمسسكم حسنة تسؤهم وأن تصبكم يفرحوا بها" سارعوا إلى أبناء أوطانكم وإخوان دينكم وملتكم، واقبلوا عليهم ببعض ما تقبلون به على غيرهم تجدوا فيهم عون وأفضل نصير، واتبعوا سنة الله فيما ألهمكم وفطركم عليه كما فطر الناس أجمعين وراعوا حكمته البالغة فيما أمركم كيلا تضلوا ويهوى بكم إلى أسفل سافلين ألم تروا ألم تعلموا ألم تحسوا ألم تجربوا. إلى متى ؟، إنا لله وإنا إليه راجعون.