لنلقي ملف «العنف المسلح» جانبا ونعود إليه لاحقا، فإنه لم يغلق بعد. ولنتابع الأحداث والتطورات وتشابكها وتضاربها على الأصعدة المحلية والعربية والإقليمية والدولية، وما أتصوره عاجلا هو ما يتعلق بالرئيس السيسي، وحاجتنا الماسة لتدوين الملاحظات الممكنة على هوامش كتاب الانتخابات الرئاسية، وعلى الرغم من قول البعض أنه كتاب مقروء من عنوانه، والرد أن ذلك لا يكفي، فبين دفاته ما يستحق الكشف عنه. ونبدأ بالتهنئة الواجبة على إنجاز الاستحقاق الثاني من «خارطة المستقبل»، فقد قرب المصريين من إنجاز الاستحقاق الثالث والأخير، أي إجراء الانتخابات النيابية؛ خلال تسعين يوما من تاريخ تسلم الرئيس الجديد لمنصبه رسميا. جاء في مقدمة مقالي الماضي أن الحاجة ماسة إلى معجزة؛ ترد الاعتبار للثورة. وأرى أنها ممكنة إذا ما تم حل المعادلة الصعبة، التي تحكم العلاقة بين طموح الثورة، وضوابط الدولة، ومتغيرات السياسة. ولهذا شروط يجب تلبيتها؛ بعد حلف اليمين والانتهاء من مراسم التنصيب، وقد تمت الأحد الماضي. ولم يكن يوم التنصيب يوما عاديا؛ بغض النظر عن مواقف التأييد أو المعارضة أو الكراهية والتربص. لقد كان يوم إعلان عودة الدولة. وسبق أن أعلنت اختياري، وهو الاصطفاف إلى جانب ثورة يناير بلا تحفظ، ومثل ذلك الاختيار ينسحب على احترام إرادة الملايين، الذين خرجوا في 30 حزيران/يونيو، في شكل ملحمة صنعت الموجة الثانية للثورة، ويراني المخالف أنني أقف على الضفة المقابلة له؛ وفق منطق الحملات الدعائية وهدف الحرب النفسية المعلنة، وهي حرب توشك أن تضع أوزارها؛ مع وساطة جارية ومصالحة قادمة، ومشهد قريب ل»تبويس اللحى». هذا لا علاقة له بعواطف الحب والكراهية، إنما بموضوعية معطيات الزمان والمكان والبشر في هذه الفترة العصيبة من تاريخ العالم، وسبق وذكرت أن المرء لا يضار باختلاف زوايا النظر إلى نفس الحدث، إذا ما وُجد الالتزام بالثوابت المهنية والأخلاقية، ووُضعت المصلحة الوطنية على رأس الأولويات، خاصة من الثائر والكاتب وصاحب الرأي!! واستيعاب هذه المعادلة التي تبدو عصية يكون بالتعامل مع مقتضيات الثورة، وضوابط الدولة، ومتغيرات السياسة، كترجمة لدرجات من الإرادة العامة للشعوب والأمم، بعيدا عن «فانتازيا» العوالم الافتراضية، وشخصنة وتأويل الحدث، وحصر النظر إليه في نطاق ضيق؛ يفسد النظرة إليه كحدث عام؛ متأثر ببيئة اجتماعية وسياسية وجغرافية، ونتاج واقع ثقافي وروحي معين، في زمن محدد. خروج 30 حزيران/يونيو عبر عن إرادة معلنة وجامعة؛ لم تكن سرية ولا فردية، وجانب من نمو وتبلور هذه الإرادة المعلنة عشته مع عدد من الشركاء منذ تشرين الثاني/نوفمبر 2012، بجهد متواضع ساعد في ولادته ونموه مع بدايات عام 2013، وتبلورت حملة «تمرد» من خلال عدد لم يتجاوز أصابع اليد الواحدة، وشقت طريقها، وأضحت ملء السمع والبصر. وغادرت في رحلة علاج طالت حتى الآن. وإرادة لها ذلك الزخم، وتملك ظهيرا جماهيريا غير مسبوق؛ لم يعتده البعض من قبل، وحملت الوجه المدني للموجة الجديدة للثورة، ثم أضيفت إليها إرادات أخرى بدأت بقرار المجلس الأعلى للقوات المسلحة بالانحياز لإرادة الجموع، وحذت حذوها إرادات أخرى للشرطة والقضاء والأزهر والكنيسة وأجهزة الصحافة والإعلام الوطنية، وعدم إدراك ذلك يوقع صاحبه في شراك نظرية المؤامرة في تفسير الأحداث والتطورات! لم يلاحظ أن طموح الثورة قد عبر عن نفسه بالمستوى اللائق في حملات وتحركات المرشحين المتنافسين، ولم تحدث حالة تصد واحدة من قبل أي منهما للثورة المضادة وفلول مبارك والطابور الخامس، فأي معارك تجري تحت أعلام الثورة عليها أن تتصدى وتعري القوى المعادية لها وتقاومها، وكثيرا ما لاحظنا العكس!. وترتب على ذلك خروج الفلول من جحورهم وعودتهم إلى صدارة المشهد الإعلامي والسياسي والاقتصادي والأمني، وتعاملت الدولة على أن السيسي مرشحها؛ رغم حياد الحكومة المشكور، ومع ذلك لم ينجح بجهد الدولة، وفاز بأصوات النساء والفقراء والمهمشين والشرائح العادية والدنيا من الطبقة الوسطى، وكثير منها يسكن العشوائيات الملاصقة والقريبة من أحياء الطبقات الغنية والشرائح الأعلى في الطبقة الوسطى، وذلك بسبب غير مباشر في رفع الوعي بين هذه الكتل الضخمة. والمراقب للزحوف الجماهير سوف يلحظ أنها كانت تتجمع في أحياء الطبقة الوسطى؛ في حي المهندسين والدقي والجيزة غرب النيل، وشبرا وأغاخان في شمال القاهرة، والعباسية ومصر الجديدة ومدينة نصر من شرقها، والمنيل والروضة والمعادي وحلوان في جنوبها؛ يتجمعون في ساحات وميادين تلك الأحياء ويتوجهون منها أفواجا وموجات متتابعة إلى ميدان التحرير (أيقونة الثورة) في قلب العاصمة، ونفس الشيء حدث في المدن الكبرى وعواصم المحافظات؛الإسكندرية والمنصورة والمحلة الكبرى وأسيوط والمنيا وأسوان. وسوف يلاحظ المراقب أنها غالبية غير مسيسة وغير ملتحقة بحزب قديم أو جديد، وكل ما يعرف عنها أنها تصف نفسها ب»حزب الكنبة» أي الجالسين في منازلهم يراقبون من بعيد؛ تشغلهم مشاكل الحياة ورعاية الأولاد والأهل؛ وكانت مطالبهم تتطور في الميادين، فمطالب مظاهرات كانون الثاني/يناير 2011 كانت إلغاء قانون الطوارئ، ومنع التعذيب، وإقالة وزير الداخلية، ولو فعل مبارك ما فعله السادات في انتفاضة كانون الثاني/يناير 1977، حيث ألغى رفع الأسعار المسبب للاضطرابات، أو قام بما قام به عبد الناصر؛ حين استجاب لمطالب الطلاب المعترضين على الأحكام الصادرة ضد المتسببين في الهزيمة، وسببت مظاهرات 1968، وصاغ منها «بيان 30 آذار/مارس» للتغيير «وإزالة آثار العدوان»، لو استفاد من خبرات من سبقوه ما تحولت إلى ثورة وما رفعت شعار «الشعب يريد إسقاط النظام» حتى سقط النظام بالفعل. ولو استجاب مرسي لمطلب طرح الثقة أو الانتخابات الرئاسية المبكرة لما وصلنا إلى الحال الراهن!! وظهر المرشحون تباعا؛ بداية بإعلان حمدين صباحي ترشحه، تلاه أعلان سامي عنان رئيس الأركان الأسبق عزمه الترشح للرئاسة، وتراجع في 13 آذار/مارس الماضي، وقال في مؤتمر صحافي: «حرصًا على تفويت الفرصة على المتربصين بالبلاد قررت عدم الترشح للرئاسة». ودخل مرتضى منصور رئيس نادي الزمالك السباق ثم انسحب في مؤتمر صحافي بتاريخ 19 نيسان/إبريل الماضي، وأعلنت الإعلامية بثينة كامل عزمها الترشح، ولم تنجح في جمع التوكيلات المطلوبة، وعزت ذلك إلى تخلي المنظمات والجمعيات النسائية عنها، وكان آخر المتقدمين المشير عبد الفتاح السيسي، فوجد أمامه منافس واحد هو حمدين صباحي. وأجريت الانتخابات، وعدد من لهم حق التصويت 53,909,306 ناخب، وعدد من أدلوا بأصواتهم في اللجان الانتخابية بمحافظات الجمهورية، 25 مليونا و260 ألفا و190 ناخباً. وأدلى 318 ألفا و33 ناخباً بأصواتهم في الخارج، وبلغت أعداد الأصوات الصحيحة 24,537,615؛ أي بنسبة 95.93 في المائة من مجموع من أدلوا بأصواتهم.. حصل السيسي منها على 23 مليون و780 ألف و104 أصوات، بنسبة 96.91 في المائة من الأصوات الصحيحة. وقدرت الأصوات الباطله (الاحتجاجية) 1.040.608 بنسبة 4.07 في المائة. وحصل حمدين صباحي، على 757.511 صوت. ونسبة هذه الأعداد مجتمعة تمثل 47.45٪ من أصوات من لهم حق الانتخاب. إذن علينا البحث عن تفسير لذلك الفرق الشاسع في الأصوات، وهل قلة ما حصل عليه حمدين صباحي كان متوقعا؟.. هذا هو السؤال المعلق.