تفاوتت ردود فعل الأتراك على العمليات العسكرية لتنظيم "الدولة الإسلامية في العراق والشام" (داعش) وسيطرته على مناطق واسعة من العراق، وخصوصاً في محافظة نينوى وعاصمتها مدينة الموصل. ذلك أنّ المسؤولين الأتراك كانوا ينظرون إلى "داعش" على أنه من نتاج النظام السوري، ويستدّلون على ذلك من أنه لم يدخل في أي صدام مع قوات الجيش السوري وانصبّ جلّ اهتمامه على محاربة "جبهة النصرة". وفي نظرة أنقرة إلى التنظيمات المتطرفة الإسلامية مثل "القاعدة" وتوابعها أنها لم تكن لتظهر لولا الظلم الذي كان يمارسه النظام السوري. ومع أنّ تركيا أدرجت "جبهة النصرة" مؤخراً في قائمة المنظمات الإرهابية، واعتبرت سابقاً "داعش" أنه منظمة إرهابية، غير أنّ الواقع العملي لم يعكس هذا التصنيف، واستمرت تركيا بدعم الجبهتين تبعاً للظروف وعندما يتعلق الأمر بمحاربتهما؛ إما لقوات النظام أو للقوات الموالية لحزب "الاتحاد الديموقراطي" الكردي السوري المؤيد لعبد الله أوجلان. وهكذا، على سبيل المثال عندما اندلعت اشتباكات قبل أسبوعين بين الأكراد في سوريا وتنظيم "داعش"، اتهم الأكراد تركيا بأنها وفّرت دعماً لوجستياً ل"داعش" وفتحت الحدود أمام عناصره. كما أنّ "داعش" لم ينفذ تهديده لتركيا بنسف ضريح سليمان شاه، الواقع ضمن الأراضي السورية، بل سمح لتركيا بإرسال تعزيزات عسكرية إلى الضريح لحمايته من أي خطر. ويبدو الدعم التركي ل"داعش" من خلال سكوتها على عمليات التنظيم في العراق، حيث يخدم قتال التنظيم المتشدد ضد حكومة نوري المالكي، منذ فترة طويلة، هدفاً تركياً في إضعاف رئيس الوزراء العراقي وإلهائه عن دعم النظام في سوريا. وعلى هذا، فإن سيطرة "داعش" على محافظات ومناطق ذات طابع سني في العراق يتقاطع مع الدعم التركي للفئات السنيّة هناك في مواجهة المالكي المدعوم من إيران. ويقع جزء من تعاون تركيا مع رئيس إقليم كردستان مسعود البرزاني، واستيراد النفط من شمال العراق إلى ميناء جيهان على البحر المتوسط من دون العودة إلى الحكومة الاتحادية في بغداد، في إطار إستراتيجية محاصرة حكومة المالكي والسعي إلى تغيير هوية السلطة في العراق. لذلك فإن التطورات الدراماتيكية في بلاد الرافدين وسيطرة "داعش" على مناطق سنية، لا بد أن تبعث الارتياح لدى أنقرة، برغم كل التصريحات التي يمكن أن تصدر عنها لذر الرماد في العيون. لقد انتقلت تركيا من إستراتيجية دعم القوى السياسية السنية في العراق إلى دعم المنظمات الإرهابية الإسلامية المتطرفة مثل "داعش" و"النصرة"، بعدما فشلت في الرهان على تلك القوى التي فقدت أحد أبرز رموزها وهو نائب الرئيس العراقي السابق طارق الهاشمي، الذي فر أولاً إلى تركيا ومن ثم إلى قطر ودول الخليج. ولكم كان لافتاً ما أعلنه مصدر مسؤول في الحكومة التركية إلى صحيفة "ميللييت" حول أنّ صعود "داعش" الكبير مرتبط بالفراغ الذي خلقه عدم إطاحة نظام بشار الأسد في سوريا، وبسياسة المالكي المهمِّشة للسنّة في العراق. لسان حال المسؤولين الأتراك يقول "لقد حذّرنا المالكي من قبل بسبب هذه السياسات". أي إنه لتفادي خطر هذه الجماعات لا بد من إسقاط الأسد في سوريا، ولا بد من تغيير المالكي الذي يظلم السنّة في العراق. وهذه علامة أخرى على استمرار سياسة تركيا في دعم المنظمات الإرهابية في سورياوالعراق، ولا سيما التنظيمات المرتبطة ب"تنظيم القاعدة" ما دامت تقلق أعداء سوريا من جهة، وتهدم الدولة المركزية في سورياوالعراق. هذه إشارة خطيرة أيضاً، لأنها تأتي مباشرة بعد زيارة الرئيس الإيراني حسن روحاني الى أنقرة؛ في انعكاس لاستمرار التعنت في الموقف التركي تجاه سورياوالعراق. الموقف التركي هذا يعني المساهمة في تدمير الوحدة السياسية والجغرافية لكل من البلدين المجاورين. وكم هو خطير أن ينقل ابراهيم قره غول، رئيس تحرير صحيفة "يني شفق" المؤيدة لرئيس الحكومة رجب طيب أردوغان، أنه بعد بدء الأزمة في سوريا ودعم المالكي للأسد ومعهما إيران، فإن تركيا تخلّت عن مقولتها في حماية الوحدة الجغرافية للعراق التي واظبت عليها منذ العام 2003 وانتقلت الى استراتيجية التحالف مع كردستان العراق والسعي لحل المشكلة مع أكرادها؛ وذلك لمواجهة محور طهران – بغداد – دمشق – حزب الله، الذي يريد أن يحبس تركيا في الأناضول. وما يؤكد ما ذهب اليه قره غول، أن وزير الخارجية التركية أحمد داود أوغلو، وجه إشارة قوية على رغبة بلاده في تدمير الوحدة السياسية للكيان العراقي من خلال انتهاكه للسيادة العراقية وزيارة مدينة كركوك قبل سنتين من دون إذن الحكومة المركزية في بغداد. كذلك كان الاتفاق النفطي بين أربيل وأنقرة من دون موافقة بغداد وبدء تدفق النفط من كردستان عبر تركيا الى ميناء جيهان التركي، إشارة قوية أخرى الى السعي لإنهاء العراق كبلد موحّد وتفتيته الى كيانات شيعية وسنية وكردية. وإذا كان هناك من يقول إن البلد في الأساس مُفتّت فهذا شيء، لكن أن تتحرك دولة أخرى عملياً لترسيخ وتثبيت هذا التفسخ فهذا شيء آخر. تصبّ عملية "داعش" في صلب المصالح التركية ولو المرحلية. إذ إن ذلك يضعف المالكي من جهة ويزيد من رخاوة الخاصرة السورية من جهة العراق، ويُخرج السنّة في العراق من عباءة الهيمنة الشيعية ولو كانت العباءة الجديدة تكفيرية ومتطرفة وإرهابية. غير أن هذا الأمر الواقع الجديد لا بد أن يعيد حسابات العديد من القوى الإقليمية. ذلك أن إقليم كردستان العراق، سيجد نفسه أمام جار جديد هو "دولة داعش" الأصولية التي لن تعرف حدوداً لتحركها؛ خصوصاً أنها تبنّت هجمات طالت أربيل ومناطق كردية أخرى. وسيجد الأكراد كذلك أن منطقة كركوك مهددة بالاحتلال من قبل "داعش"، لا سيما أنها الغنية بالنفط من جهة والمدينة التي يعتبرها الأكراد بمثابة "القدس" والمتنازع عليها مع العرب والتركمان. وهذا سيدفع الأكراد الى التعاون مع بغداد لمواجهة خطر "داعش" ويجعلهم يشعرون بأهمية التحالف مع الشريك في الوطن وليس الانقلاب عليه بالتحالف مع الخارج التركي، الذي طالما كان عدواً للشعب الكردي وتطلعاته، سواء في العراق أو في تركيا أو في سوريا. لعل تغليب سياسة الغرائز الآنية على سياسة المصالح البعيدة المدى سيُلحق بتركيا المزيد من الأضرار؛ ذلك أن تمركز الإرهابيين المتشددين على الحدود مع تركيا وهم الذين جاؤوا إليها من تركيا نفسها لن يوفر للأخيرة الاستقرار ولا الأمن ولا الحفاظ على وحدتها السياسية والجغرافية في جغرافيا إسلامية تتطابق في بناها الهشة.