أقنعني زميل عزيز بقطع ما أكتب عن خريطة ‘العنف المسلح' قبل وبعد ثورة كانون الثاني/يناير 2011، حيث يرى أن انتخابات الرئاسة تحتاج التوقف عندها لما سيترتب عليها من أثر قد يمتد لسنوات، وأوضحت أن جهدي مدخر إلى أن تضع الانتخابات أوزارها؛ وتتوقف الحملات، ويعود كل خنجر إلى غمده، ويهمد الغبار، وينقشع الجو، وتتحسن الرؤية، وقتها تكون الكتابة مجدية وأكثر نفعا، وفعلا وافقت الزميل العزيز، لكن عندما هممت بالكتابة وجدت أنني مازلت في أسر خريطة ‘العنف المسلح'. وليعذرني الزميل العزيز عن عدم الوفاء بالوعد! وملف اليوم عن قضية عُرفت ب'التنظيم الناصري المسلح والتخابر مع ليبيا'، وبلغ عدد المتهمين فيها ستة عشر متهما؛ أستاذان جامعيان، وثمانية محامين، ومهندس، وفلاح، وأربعة طلاب. وحملت رقم 2830 جنايات عابدين لسنة 1986، والمتهم الأول فيها أكاديمي وأستاذ إدارة هو صلاح الدين الدسوقي، والثاني محامي وقانوني هو على عبد الحميد، والثالث مهندس هو جمال منيب إبراهيم؛ هرب البعض واختفوا عن الأنظار حتى صدور حكم البراءة، وكان بينهم المتهم الثاني. ظهر ذلك التنظيم متزامنا مع بدء عمليات تنظيم ‘ثورة مصر'، وكانا معا من تجليات المقاومة الوطنية للاختراقات الصهيونية في ثمانينات القرن الماضي، عقب توقيع اتفاقية ‘كامب ديفيد'، و'التنظيم الناصري المسلح' لم يلق اهتماما كافيا من المؤرخين والكتاب والمهتمين على العكس من تنظيم ‘ثورة مصر'، والأسباب معروفة لا يتسع المجال لحصرها. وإذا ما أفرج عن وثائق ‘جهاز أمن الدولة' لسوف يلحظ المطلع أن التحقيقات معي خلال شهري كانون الاول/ديسمبر 1989 وكانون الثاني/يناير 1990 في مقر الجهاز بلاظوغلي أن التهمة كانت ‘العمل على قلب نظام الحكم'، ومعها سئلت عن علاقتي ب'التنظيم الناصري المسلح' وبتنظيم ‘ثورة مصر'؛ ساعتها تأكدت أن معلومات الجهاز محدودة، وتهمة علاقتي الشخصية لم أنفها، وما قاموا به ‘شرف لا أدعيه'! ومرت القضية بمفاجآت غير معتادة في تاريخ العدالة، بعد صدور الحكم الأول في 1988 واعتقال دام عامين؛ بمعاقبة متهم واحد؛ هو المتهم الثالث بالأشغال الشاقة لمدة خمس سنوات وبراءة بقية المتهمين ‘لعدم توافر الأركان القانونية للجريم'. المفاجأة الأخرى جاءت مع إيداع الحكم بمكتب الحاكم العسكري للتصديق عليه، الذي رفض التصديق وألغى الحكم، وأحيلت القضية إلى دائرة جديدة. المفاجأة الثالثة كانت تشكيل هيئة المحكمة من: المستشار محمد سعيد العشماوي رئيسا، وعضوية المستشارَين وصفي ناشد وأحمد أمين عبد الحافظ، والعشماوي قاض جليل وعالم ومفكر، ومن المهتمين بالثقافة والفنون والتشريع، ويعتبر كتابه عن ‘الإسلام السياسي' أهم مرجع عن ظاهرة نمت وترعرعت في سبعينات القرن العشرين. أما المفاجأة الرابعة كانت حكم المحكمة الجديدة بجلسة 11 شباط/فبراير 1990، وبمقتضاه تمت تبرئة جميع المتهمين. اسقط هذا الحكم التاريخي جميع أدلة الدعوى، التي بُنيت على اعتراف المتهم الثالث في تحقيقات النيابة؛ ك'اعتراف لم يصدر عن إرادة حرة واعية، إنما كان نتيجة تعذيب وقع عليه كما وقع علي غيره من المتهمين'. ونددت المحكمة بالتعذيب ‘باعتباره عدوانا علي الشرعية وإعتداءا علي حقوق الإنسان، وناشدت المشرع وضع ضوابط تكفل حماية أشد للمتهمين من أي تعذيب بدني أو نفسي أو عقلي يتعرضون له، وهم بين أيدي السلطة وفي حماية رجالها وفي رعاية الدستور'. ذكرت المحكمة إن المطاعن الموجهة إلى محاضر الضبط إستطالت حتى وصلت محاضر تحقيق النيابة ‘الأمر الذي لا بد أن يؤثر على العمل القضائي بأكمله ما لم تقم بالمحققين وحدهم ضمانات تحقيق جرائم الرأي، ويتيسر للمتهمين في القضايا ذات الطابع السياسي طلب ندب قاضي للتحقيق، ويُبطل أي إجراء في التحقيق إذا تم دون إجابة المتهم الى طلبه، أو إذا وضعت عراقيل تحول دون تولي التحقيق احد القضاة'. وقدرت المحكمة أن وضع عصابة على عين متهم مبصر ضرب من التعذيب المهين، الذي يحول البصير إلى شبه كفيف على غير ما شاء الله ليلقى في نفسه المذلة ويملأ كيانه بالذعر حيث لا يدري تماما ما حوله ويستشعر العدوان من أي حركة بجواره. وأثبت تقرير الطب الشرعي الأول (المؤرخ 12/5/1986) أن بالمتهم آثار أصابته وهو ما يؤيده قوله بوقوع التعذيب عليه وحتى بعد استجلاء الامر من كبير الأطباء الشرعيين، فانه قرر احتمال حدوث تعذيب لا يترك آثرا، وهذا ما يتوافق مع ما قرره المتهم الذي لم يعرض على الطب الشرعي إلا بعد مرور عشرة شهور على الفترة التي قرر بوقوعه تحت التعذيب خلالها. ‘ومتى صح وقوع تعذيب على المتهم على النحو الآنف بيانه فإنها تسقط أي اعترافات له تمت تحت التعذيب'! لم تأخذ المحكمة باعترافات المتهم الثالث؛ ‘كانت وليدة تعذيب ونتيجة إكراه، فان الادعاء يصبح خاويا من دليل يقيمه، والاتهام يصير فارغا من سند يدعمه، ومن ثم تعين الحكم ببراءة جميع المتهمين مما نسب إليهم اعمالا للمادة 304/ إجراءات جنائية مع مصادرة المضبوطات عملا بالمادتين 30 من قانون العقوبات و30 من القانون رقم 394 لسنه 1954 وذلك عدا الشيكات السياحية والنقود المضبوطة في مكتب المتهم الثالث'. وبعد حسم موضوع الدعوى تناولت المحكمة واقعاتها، وما ذكره كثير من المتهمين عن وقوع تعذيب عليهم من ضباط مباحث امن الدولة، وكان بعضه تعذيبا ماديا، وهذه الآثار ثابتة في تقارير طبية شرعية كتلك الخاصة بالمتهم الأول والمتهم الثالث والمتهم الرابع، والمؤرخة على التوالي 21/5/1987، 15/6/1987، 15/6/1987، الذي وصل حد وضع قطع خشبية في دبر بعض المتهمين، وهذا التعذيب المادي غير التعذيب النفسي والعقلي ‘الذي تستشعر المحكمة من كل صفحات التحقيق أن المتهمين تعرضوا له، وهؤلاء المتهمون من متعلمي ومثقفي مصر الذين يمكن أن يُعدِم إرادتهم ويشل اختيارهم مجرد التهديد بتلفيق الاتهام للزوج أو الوالد (كما حدث مع المتهم الثالث) أو مجرد التلويح بالتعذيب أو وضعهم في ظروف سيئة وغير طبيعية وتحت احتمال الإيذاء'. وأكد الحكم أن أول حقوق المواطن أن يعيش كريما في بلد كريم، فإذا ما وجه إليه اتهام عومل وفق القانون معاملة لا تنبو عن الإنسانية ولا تحيد عن الأصول حتى يمثل أمام قاضيه الطبيعي، فيحظى بمحاكمة عادلة إما أن تنتهي بإدانته إن كان مدانا أو تنتهي ببراءته، ثم يصبح الحكم بهذه الصورة الطبيعية والشرعية والقانونية عنوانا على الحقيقة وان يقين المحكمة ليفزع وضميرها يجزع، ويزداد الفزع ويتضاعف الجزع إن حدث التعذيب بصورة وحشية فظيعة كوضع قطع خشبية في دبر المتهمين وهو أمر وصفته محكمة النقض فى الثلاثينيات من هذا القرن (الماضي) بأنه إجرام في إجرام. وذلك القاضي والعالم الجليل، رحمه الله، وجد من يهدر دمه ويجعله هدفا للاغتيال!! وسبحان من له الأمر من قبل ومن بعد!!.