على الرصيف المواجه لنقابة الصحفيين، جلست إحدى المسنات تبيع المناديل، تستتر من سخونة الأرض بقطعة كرتون، وتحتمى من حرارة الشمس بشالها الأسمر، تستعطف المارة لشراء مناديلها مقابل أية مبالغ مادية، تعينها على مواجهة الحياة وسد جوع أسرتها. 1 ومع اقتراب الساعة من الواحدة ظهرًا، انتشر العشرات من صحفيى جريدة "البديل" بطول سلالم نقابتهم، يهتفون للمطالبة بحقهم الأصيل بقبول أوراق قيدهم، وتعالت هتافاتهم، بعد أسباب واهية رفضوا على إثرها، فيما تمنت بائعة المنادية لو قفزت من جلستها، لتهتف معهم باسم لقمة العيش، وتوفير حياة كريمة، بينما تخاذل "عبد الخالق ثروت" باشا، صاحب الشارع، ورئيس وزراء مصر فى عهد الملك فؤاد الأول، هذه المرة، عن نصرة الفريقين، بعد خدمته لبلده طيلة عقدين من الزمان. 2 مرت الساعات، عمل أصحاب الحق خلالها على نشر أزمتهم إعلاميًا، بعد توافد الجميع ما بين متضامن أو مؤيد أو ممارس، وخرج الجميع من مبانيهم المحيطة ينظرون للغاضبين، يتمنون النزول للمشاركة والدعم والصراخ بظلم طالهم، لم يقو أحد منهم على التلفظ به فى وجه سلطانه الجائر، فيما ودت العجوز فى لفت الأنظار إليها؛ لعرض حالها وإطلاق صرخاتها. 3 ومع اقتراب الشمس من المغيب، عاد الموظفون إلى بيوتهم بظلمهم، بينما ظلت العجوز فى مكانها، لا تقوى على الحركة، واستسلمت لجلستها ووضعها حتى المساء، ولم تجد ما يقيم صلبها سوى لقيمات، أمدها بها بعض المارة، فيما لجأ الصحفيون إلى مكان اعتصامهم داخل المبنى الرخامى، يفندون أوراقهم، ويناقشون أوضاعهم. 4 عادت الشمس للشروق من جديد، وعاد الفريقان المظلومان إلى وضعيهما؛ فلم أعتد أنا وأبناء جيلى على الاستسلام للأمر الواقع، والتسليم لمعطياته وأشخاصه، حتى وإن بدا ذلك فى نظر أقراننا، خروجًا عن النص وتحدٍ للمسئول، كما رفضت تلك العجوز واقعها، وتسوّلت لتكشف عورات مجتمعها وخذلانه لها، ولتعطى الجميع دروسًا فى الصبر والتحمل، رغم سنها ونظرة الناس. 5 أنا وبائعة المناديل "كهاتين" فى الظلم.. كهاتين فى التجاهل.. كهاتين فى هضم الحقوق.. كهاتين فى الانتفاضة، لكن لكل طريقة؛ ظُلمت أنا وزملائى ال36 من نقابة الصحفيين، بينما ظُلمت من الدولة.. تجاهلنا أبناء مهنتنا، الذين طالما دعمناهم لمثل تلك المواقف، بينما تجاهلها المسئولون وتركوها فى الشارع.. هُضمت حقوقنا بين الكبار، فيما تاه حقها وأولادها بين أقدام المارة وإطارات السيارات أمامها.. كهاتين من الانتفاضة؛ بالاعتصام والصراخ عاليًا، وعدم الصمت عن الحق، حتى لو كلفنا ذلك أرواحنا، فيما اكتفت هى بانتفاضة الدعاء للاستغاثة بالخالق.. واثقون جميعا من عدالة السماء.